عندما عيّن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سفيره في دمشق الكسندر يفيموف مبعوثاً خاصاً له في الجمهورية العربية السورية لتطوير العلاقة مع دمشق، توسّعت التحليلات السياسية في صفوف المعارضين وخصوم سوريا إلى حدود الأوهام، وإنطلقت جميعها من فرضية تفيد بأن تعيين المبعوث الرئاسي الروسي "يأتي في إطار حكم فعلي لدمشق". بينما أوحت حملات إعلامية منظّمة بأن بوتين "تخلّى عن دعم الرئيس السوري بشار الأسد، ويريد أن يدير سوريا بشكل مباشر".
من يعرف مسار السياسة الروسية يُدرك أن موسكو لا تبيع حلفها مع دمشق، ولا هي تتنازل عن ذاك الدعم المفتوح للقيادة والدولة السورية، بعد تقديم التضحيات العسكرية والتعاون في معمودية الدم لأسباب إستراتيجية بعيدة الأفق: كيف يمكن لها أن تتنازل للأميركيين عن أهم أوراقها عشية تطبيق واشنطن لقانون "قيصر" الذي يُعاقب عملياً الشركات الروسية والصينية التي تتعامل مع دمشق؟.
يعتبر خبراء أن كل الحملات الإعلامية التي توجّه ضد الأسد تصبّ في سياق إفتتاح معركة الرئاسة السورية، التي يحلّ استحقاق انتخاباتها بعد عام. وبالتالي، لا يمكن ربط تلك الشائعات الإعلامية بدور مرتقب لروسيا الإتحادية ضد الرئيس السوري، ولا تلبية للطلبات الأميركية. لا بل على العكس، فإن خطوة بوتين بتعيين المبعوث الروسي هي ردّ واضح على دور المبعوث الأميركي جيم جيفري، ولتأكيد موسكو أن سوريا هي أولوية للإتحاد الروسي، في السياسة والإقتصاد، خصوصاً مع بدء المباشرة بفتح الطرق الدولية، أو ما يعرف "أم 4" و"أم 5".
يشير فتح الطريق الأول الى إتفاق روسي-تركي-سوري ضمني، في ظل سعي الأميركيين لفرض قوة عسكرية عمادها أكراد من سوريا تابعين لوحدات "حماية الشعب الكردي" أيّ حزب "العمال الكردستاني" وأكراد من كردستان العراق تابعين لمسعود مصطفى البرازاني، إضافة الى مسلحين من العشائر العربية المتواجدة شرق سوريا، يجري دمجهم جميعاً في جيش شبيه بقوات "سوريا الديمقراطية" يحظى بدعم مالي خليجي، وغربي عسكري، ودبلوماسي دولي.
كانت حاولت عواصم خليجية إقناع دمشق أن تلك القوات المهجّنة ستكون مخصصة لإجهاض المشروع التوسعي التركي بين شمال وشرق سوريا، لكن الحقيقة تكمن في أن واشنطن تخطّط لفرض نفوذ لها في الجغرافيا السورية، وفق الأسلوب السابق الذي إصطُلح على تسميته "سوريا المفيدة". وسيكون هذا القسم مُستثنى من العقوبات الأميركية وفق قانون قيصر المرتقب تنفيذه بعد بضعة أيام. لن يكون الهدف بقاء الأميركيين هناك، بل تغطية إنسحاب عسكري أميركي من سوريا مع ضمان بقاء نفوذ في منطقة إستراتيجية جغرافياً ونفطياً.
يحاول الأميركيون أيضا عبر جيفري إصلاح العلاقات التركية-الكردية لسحب أنقره من الحلف الروسي-الإيراني في سوريا، مستندين الى ان دمشق وموسكو يحضّران بدعم من حلفاء طهران، لحرب عسكرية يستعيدون خلالها إدلب في الشهرين المقبلين، وقد عمد الروس إلى استحضار طائرات البجعة المتطورة لأول مرة الى قاعدة حميميم، تأكيدا على رغبتهم في حسم المنطقة عسكريا بشكل نهائي، علما ان الجيش السوري اعدّ قوات ضخمة، للدخول الى ادلب من جهة، والى ريف الرقة الجنوبي من جهة ثانية، في وقت اضطرت فيه تركيا الى سحب ١٧ الف مسلح من شمال سوريا الى ليبيا للقتال هناك الى جانب حكومة طرابلس الغرب.
في حال نفّذ الأميركيون مخططاتهم بإنشاء كانتون سوري معفي من العقوبات، يسعون من خلاله الى فرض مساحة سورية واسعة وجاذبة لشرائح من السوريين، فإن المنطقة لن تكون مستقرّة كما يريدها الأميركيون، وهو ما يُفسر التمدد العسكري السوري-الروسي، ويُؤكد ان موسكو ملتزمة بدعم الأسد بعكس كل الفرضيات والشائعات السابقة.