تستقرّ الكيديات الطائفية والمذهبيّة دمغة الهويّة المنغّصة للّبنانيين عبر تاريخ وطنهم. والإسم الأنسب الذي أقترحه لهذه الأوضاع المرّة والإنهيارات وتخبط المسؤولين العام وضياعهم العارم وتضييع مواطنيهم وتدمير وطنهم هو مكائد القادة العشوائيين. نعم عشوائيات وإجرام في التفكير والقول والتصريحات والسلوك والعنف بما يبقي على لبنان ذلك الوطن المستحيل أو المستورد.
نعم لبنان البلد المستحيل مع أنّه سيطفيء في الأوّل من أيلول المقبل شمعته المئة على قيام ما عرف ب"دولة لبنان الكبير". إنّ قرناً من نشوئه وحروبه وتجاربه الدموية لم تكفِ لإيصال اللبنانيين إلاّ إلى الكفر بأوطانهم وتركه إلى زوايا الدنيا، وعدم فهم عظمة الإصلاح ةالعيش فيه كما أبسط الشعوب والأوطان في العالم.
كلّما "دقّ الكوز بالجرّة"، أوكلّما فكّر البعض بتأسيس حزباً أو جمعيّة أو مؤسسة أو حتى عائلة بهدف التغيير، ينتصب في وجههم السؤآل:
أيّ لبنانٍ نريد؟
هو السؤآل الطازج والمقيت المطروح في السرّ والعلن منذ أن كان لبنان المعاصر.
ما الجديد هناك في لبنان يا عرب؟
توق قوي جدّاً إلى العرب أوّلاً لربّما تندلق الأموال والمساعدات من دول السعودية والخليج وغيرها، وتشاطر على التخريب العام ، وهرولة متسوّلين سارقين على أبواب الصندوق الدولي في ظلّ عودة إلى نغمات الفدرالية والتقسيم المقنّع والإعتراض الشامل على النظام والصيغة اللبنانية وحتّى رفض ولادة لبنان على أيدي القابلة الفرنسية "الإستعمارية" و"الإحتكارية" ، وإعلان سقوط صيغة نظام التعايش بين بشارة الخوري الماروني ورياض الصلح السني في ال1943. وهكذا ترانا نعود مع المفتي الجعفري الممتاز أحمد قبلان في خطبة عيد الأضحى المبارك والتحضر لمئوية لبنان الكبير، إلى إعلان عقم النظام وعقم الزمان بحاضره ومستقبله في لبنان. ما قاله المفتي الشيعي ناقشنا فيه أكثر من أطروحة دكتوراه. ليس هناك من نظامٍ عادلٍ في لبنان. لكن نعيد التذكير بلبنان من حيث بدأنا إلى اليوم:
1- صحيح أنّ نشأة لبنان جاءت برفع سقفٍ فوق نظام القائمقاميتين والمتصرّفية وبرعايةٍ فرنسيّة، لكنّ الأصح أنّ المؤسسين اندثروا، ولا يتصوّر طفل صغير أنّ مئة سنة من الإقامة في حيّز واحد لا يمكن أن ينشيء وطناً طبيعياً قادراً أن يحكم نفسه بنفسه من دون التواء الأعناق نحو الخارج المشرّعة الأبواب في الشرق والغرب. إن ربط الفساد اليوم بفساد المؤسسين لا معنى له لأنهم يمعنون في الفساد والتدمير، وإنّ التوصّل إلى دستور اتفاق الطائف بعد حروب أهلية استمرّت 20 سنة، ليس خطأ الآخرين بقدر ما هو فشل مسؤوليه هم من إرساء نظامٍ حديث ومعاصر ومشذّب من يباس العصبيات المتجددة.
2- جبل لبنان هو المحور الصلب الذي اختزن الأقليّات التاريخية عبر التاريخ ، وفي رأسها الموارنة والدروز. إن قراءة تاريخ لبنان في العصر الوسيط بين القرنين 9 و15 ، أو بين الفتح الإسلامي والفتوحات العثمانية يدرك جذور تلك الوعورة، وفشل القوى العظمى على تطويعها، وقبل أن يكون هناك غرب بالمعنى الحديث. لم يحوّل اللبنانيون أنظارهم من الشرق الى الغرب إلاّ بعدما نصبت تركيا مشانق الأحرار وتحوّلت إلى الرجل المريض الذي كان لا بدّ من تقاسم أراضيه الشاسعة. وما حوادث 1860 الطائفية سوى المحطّة الدموية الأولى التي أثخنت أجساد اللبنانيين في الجبل، وتركت ندوباً لم تيبس على شفاههم بين الأجيال. بقي الجبل الماروني النواة الصلبة العاصية على تطويعها وكسرها من قبل الغزاة. أورثت تلك النواة اختزاناً لإعتداد جيني لدى أهل الجبل، أكسبهم الصلابة والتمايز والقوة كما التعالي للعائلات والباكوات والإقطاعيات التي ماشت الأتراك وملكت الأراضي والأحكام.
3- بعث البطريرك الماروني الياس بطرس الحويّك بمذكّرة ( 25 /10/ 1919 ) إلى مؤتمر الصلح في باريس جاء فيها: إن لبنان لا يطالب إلاّ بإعادة مناطقه إليه، التي يقرّها التاريخ، وتثبتها خريطة رئاسة الأركان الفرنسية لسنوات 1860-1862. إنّ إعادة لبنان إقليمياً إلى حدوده التاريخية كما يلي: غرباً المتوسط، شمالاً النهر الكبيروخط ينطلق من هذا النهر ويلتفّ حول سهل البقيعة والضفّة الشرقيّة لبحيرة حمص، شرقاً قمم الجبل الشرقي" أنتيليبان" وقمم جبل الشيخ "جبل حرمون"، جنوباً خط ينطلق من أواخر مرتفعات جبل حرمون ليلتفّ حول حوض بحيرة الحولة، جنوباً خطّ ينطلق من الجبال الواقعة شرقي هذه البحيرة ثمّ يلتفّ حولها لينتهي غرباً عند رأس الناقورة، تتطابق مع كيان جغرافي عرف في الماضي باسم فينيقيا، وألّف في العصور الحديثة حتى ال1840 الأراضي اللبنانيّة.
4- وجاء في عريضة أهالي الجنوب ( 26/10/1919 ):" "إنّنا نطالب بالإنضمام إلى لبنان فراراً من خطر الصهيونية، ولا نريد أبداً أن نلحق بفلسطين. وإن خفنا أبناء اسرائيل فلا لوم، فإنّ أميركا الغنية القوية خافت من الياباني وأغلقت في وجهه أبواب بلادها. وفلسطين كصور أرض زراعية فلا يمكن أن تكون سوقاً لنا ولا نذكر أننا أخذنا منها أو أعطيناها في زمنٍ من الأزمات. ثمّ أنّ أخلاقها وموائدها تختلف كثيراً عن أخلاقنا وموائدنا وعوائدنا. فلا يكون بيننا امتزاج وسلام. إن أبى مجلس الأربعة أو مؤتمر السلام إلاّ إلحاقنا بفلسطين فيكون قد ارتكب جنايةَ عظمى يتبعها ولا شكّ جنايات".ووقّع العريضة، أهالي صور وجويا وديركيف ومزرعة مشرف ودير عامص والبياض والمجادل ودير خطار وبرج قالويه وكونين وبيت ياحون وطيرزبنا ودير قانون وتبنين قرية نبيه بري والجمجمية وعيتا وشاف واليهودية وشمع وحانويه وقانا ويارون والحبيبة وطيرحرفا وعلما الشعب والشيخية والباسولية وعين ابل والقوزح ودبل.
5- تلقّى جورج بيكو 62 عريضة في27 /10/1919، تطال أيضاً مؤتمر الصلح بتوسيع حدود لبنان الطبيعية والتاريخية ( 47 من البترون، 12 من الشوف، 1 من الرميلة، 2 من المتن، 1 من دير القمر، كذلك أرسلت 79 عريضة أخرى بالمضمون نفسه(36 من الشوف، 27 من الكورة،15 من المتن، 1 من إقليم الخروب).
6- في الأوّل من أيلول 1920 أعلن قيام دولة لبنان الكبير تحقيقاً للرسالة (24 آب 1920) التي بعث بها رئيس الوزراء الفرنسي ألكسندر ميلليران إلى النائب البطريركي عبدالله خوري رئيس وفد لبنان الثالث إلى مؤتمر الصلح:" إن غاية فرنسا من إعادة وطنكم إلى حدوده الطبيعيّة، فهي تكوين لبنان الكبير، الذي سيشمل عكّار، كما سيمتدّ جنوباً غلى حدود فلسطين. ومن الضروري ضمّ مدينتي طرابلس وبيروت بشكلٍ تام إليه، على أن تحتفظا باستقلالٍ ذاتي واسع، مراعاة للفروق الإقتصادية التي تتّصل بينهما وبين الجبل. لم أعد بحاجةٍ إلى التأكيد على استقلال لبنان الذي سبق للسيّد كليمنصو أن أعلنه كما أعلنته أنا شخصيّاً."
ما زلنا نراوح وندور على أنفسنا بحثاً عن أي لبنان نريد؟