ليست المرة الاولى التي تعاني منها الولايات المتحدة من اضطرابات وتظاهرات ومواجهات مع الشرطة على خلفية التعامل العنصري، او وفاة احد الاشخاص من ذوي البشرة السوداء على يد مدنيين او شرطيين من البشرة البيضاء. ولكن، ما يحصل حالياً منذ قرابة الاسبوع، تخطّى المعدل الطبيعي والمعقول في التعاطي مع مثل هذه الازمات، ومشاهد المواجهات واحراق السيارات وسرقة المحال وفرض حظر التجوّل ونشر الحرس الوطني، وقرار الاستعانة بالشرطة العسكريّة للجيش الاميركي، وتطويق البيت الابيض من قبل المتظاهرين، كلها امور ارخت بظلالها على المشهد الاميركي ودفعت الى استخلاص الكثير من العبر واستنباط العديد من التحليلات.
وفي خضم هذه المعمعة التي تعيشها اميركا، برز كلام -ولو على سبيل النكتة- للمقارنة بين ما يحصل في ولايات اميركية عديدة وما شهده لبنان منذ 17 تشرين الأوّل الفائت وحتى وصول وباء كورونا. النكتة فعلت فعلها، واضحكت الكثيرين نظراً الى عدم جدّيتها، اما الكلام الآخر الاكثر جدّية وعمقاً، فيجدر التوقف عنده.
يمكن القول بشكل عام، ان ما يحقّ لاميركا لا يحقّ لغيرها، فالمشاهد التي تناقلتها وسائل الاعلام الاميركية قبل غيرها، تشير بما لا يقبل الشك الى استخدام القوّة من قبل الشرطة وقوّات حفظ الامن بحق المتظاهرين، وبشكل اكبر مما تعاملت به القوى الامنيّة اللبنانيّة مع المتظاهرين في لبنان.
ولكن، فيما كانت واشنطن والامم المتحدة ومعظم الدول الغربيّة تطلق تحذيراتها حول وجوب احترام حقوق الانسان في لبنان والتنبيه من مغبّة التعرّض للمتظاهرين، لم ينبس احد ببنت شفة ازاء ما تشهده ولايات كثيرة في اميركا، ولم نسمع بحقوق الانسان هناك، مع العلم ان الادارات الاميركية-السابقة منها والحالية- تكون في مقدّمة المعترضين والرافضين والمستنكرين لأيّ ممارسات تعتبرها مهدّدة لحقوق الانسان وحريّة التعبير والتظاهر. ومع الاحترام الكلّي لتقدير القوى الامنيّة في كل بلد لطريقة التعاطي مع المتظاهرين غير السلميين لمنع الفوضى والبلبلة، تبقى الاهمية في احترام المعايير الواجب تطبيقها على الجميع في قضايا حقوق الانسان وحرية التعبير.
وفي وقت كان بعض اللبنانيين قد تعرضوا لرئيس الجمهوريّة وطالبوا برحيله (علماًان النظام في لبنان برلماني وليس رئاسياً)، كان المشهد مماثلاً في واشنطن حيث اتّهم بعض المتظاهرين الرئيس الاميركي بالاختباء خلف اسوار قصره، مطالبين برحيله. وفي حين انّ لبنان هدّد بتحريك القضاء للتعرض لمقام الرئاسة والرئيس، فإن المشهد الاميركي كان مغايراً، فلم يتمّ اللجوء الى القضاء، بل كان الردّ عبر تغريدات للرئيس الأميركي دونالد ترامب نفسه اخرجت الناس عن هدوئها ودفعت غيرالمعني بالتظاهرات الى التعاطف مع المتظاهرين، وبالاخص حين لجأ الرئيس الاميركي الى تعابير تذكّر بحقبة العبوديّة واضطهاد ابناء البشرة السوداء، بالقول انه "حين تبدأ الفوضى فعندها يبدأ اطلاق النار"، و"لو اجتازوا اسوار القصر الابيض لوجدوا الكلاب الشرسة بانتظارهم"...
ولم يتورّع ترامب عن اتّهام اخصامه السياسيين بتأجيج التظاهرات والمواجهات لتحقيق مآربهم الشخصية. وقد رأى البعض في هذه المواقف بداية بوادر امكان اندلاع حرب اهليّة، تغذّيها الانقسامات الواضحة السائدة حول شخصيّة الرئيس، ولعل اللجوء الى الحرس الوطني والشرطة العسكريّة الاميركيّة مؤشّر لمنع خروج الامور عن حدودها، علماً انّ العديد من الولايات فرضت حظر التجوّل في خطوة تحمل دلالات على جدّية في الحد من انتشار التظاهرات.
قد يكون من المبالغ به الحديث عن اندلاع حرب اهليّة، ولكن من المؤكد انّ لبننة اميركا مبالغة توازي الحرب الاهليّة، ولكن يجب الاخذ في الاعتبار انّ نار جرح العنصريّة بدأ يتحرّك تحت الرماد من جديد، وهو ما قد يشكل رصاصة الرحمة بالنسبة الى آمال ترامب في تجديد ولايته الرئاسيّة. لا أحد يتوقّع الفلتان الكامل في اميركا، الا ان الكثيرين باتوا يتوقعون خروج ترامب من البيت الابيض، ما من شأنه تهدئة النفوس واعادة الامور الى طبيعتها على اكثر من صعيد.