فرضت جائحة فيروس كورونا تحدّياً غير مسبوق أمام دول العالم، وأبرزت أهمية الصحة عن الاقتصاد، وبالتالي فيروس كورونا أثبت للجميع أنّ الصحة والبحوث العلمية المرتبطة بها، هي رأس المال الأول للدول، ومصدر أمنها واستقرارها، ومؤشر قوتها. ونرى حالياً في جميع أنحاء العالم، كيف تدفع الاقتصادات الثمن من جراء تفشي الفيروس، إذ انخفض النشاط الاقتصادي والتجاري بشكل كبير.
وبالتالي فإنّ أداء الرعاية الصحية يعتمد بشدة على الاقتصاد، ولكن أيضاً على الأنظمة الصحية نفسها، ولا ينبغي الاستخفاف بهذا الرابط، ولذلك فإنّ الاستثمار في الصحة ليس فقط أمراً مرغوباً فيه، ولكنه أيضاً أولوية أساسية لمعظم المجتمعات. ومع ذلك، تواجه الأنظمة الصحية في معظم العالم تحديات صعبة ومعقدة، ناتجة جزئياً عن ضغوط جديدة، مثل شيخوخة السكان، والانتشار المتزايد للأمراض المزمنة، وبالتالي الصحة تبقى أهمّ من أيّ شيء.
ببساطة لن يستهلك الناس وينفقوا إذا خافوا على صحتهم.
بالتالي الصراع الذي شغل تفكيرنا لعدة قرون بأن أيهما يسبق الآخر السياسة أم الاقتصاد سقط أمام أهمية وعظمة الصحة التي تقود العالم الآن أمام فيروس كورونا الذي يواجه العالم، لذلك نجد أنّ الدول أخذت إجراءات عديدة أوقفت الحياة الاقتصادية تماماً، وذلك حفاظاً على قيمة الإنسان وصحته، وهما المحرك الأساسي للاقتصاد في العالم، على الرغم من تعاظم دور التكنولوجيا والتي ساعدت بصورة كبيرة على احتواء العديد من الصعوبات خلال هذه الأزمة، ولكن يبقى العنصر البشري هو صلب ومحور الاقتصاد في العالم.
من هنا نرجع لصراعنا الأساسي بأنّ الاقتصاد هو من يقود، وأنّ السياسة وأروقتها اختفت تماماً مع صعود الأزمة لنرى فقط أهمية صحة الإنسان وتداعيات الأزمة على الاقتصاد، خاصة في ظلّ التوقف المفاجئ للاقتصاد الحقيقي، وبالتالي تراجع كبير في مستويات العرض والطلب أيضاً، مما يجعل الدول كافة تعمل تحت شعار محدودية الموارد وحتمية الاستهلاك الرشيد (الاكتفاء الذاتي) لتجاوز هذه الأزمة، وعودة الحياة الاقتصادية لطبيعتها من جديد.
إنّ جائحة كورونا حلت لتؤكد للعالم المتباهي بحجم اقتصاده الهائل الذي يفوق 83 تريليون دولار، والمثقل أيضاً بحجم ديون تاريخية تتجاوز ثلاثة أضعاف ما ينتجه صحة نظرية «التوجه الفكري أهمّ من الموارد الطبيعية»، بالإضافة إلى أنّ هذا العالم المادي جداً بنظمه السياسية والاقتصادية المتنوّعة يقف الآن مشلولاً أمام عدو غير مرئي يحصد بلا رحمة أرواح عشرات الآلاف من البشر، ويصيب ملايين آخرين.
قبل أزمة كورونا قدّر البنك الدولي تكاليف الأوبئة التي يتحمّلها الاقتصاد العالمي سنوياً بنحو 570 مليار دولار فقط، أيّ ما يوازي 0.7% من الدخل العالمي، موزعة على القطاع الصحي وتغيّر سلوك المستهلكين وخلل سلاسل التوريد العالمية، ليأتي الفيروس التاجي ولسان الحال يقول: هذا غير كافٍ أبداً لعالم يتناسى أنّ جودة الصحة عامل أساسي في رفع معدلات الإنتاج والحفاظ على نموّها، وما كان لهذا المشهد المفزع أن يحدث بتلك الطريقة لو كثف صناع القرار عبر العقود الماضية اهتمامهم أكثر بالتوجه الفكري على حساب استنزاف الموارد الطبيعية وتوريقها.
إنّ أزمة فيروس كورونا الحالية أظهرت العديد من التحديات للشعوب والحكومات على حدّ السواء، وأنّ تلك الأزمة أجبرت الشعب على الالتزام بعدة سلوكيات لم تكن معتادة أو حتى متصوّرة بالحدوث يوماً ما، ولذا فقد بلغ التحدي الخاص بتغيّر عادات التواصل والتباعد المجتمعي مداه الأقصى عبر البروتوكولات الصحية التي فرضتها المنظمات الدولية وتجارب الدول الأخرى في مواجهة الفيروس.
كما أنّ الأزمة الراهنة وضعت الحكومات ومتخذي القرار بين خيارين أحلاهما مرّ، بين تحدي الحفاظ على الاقتصاد وإخراجه من حالة ركود هو مقبل عليها، وبين الحفاظ على أرواح البشر بمنع الاختلاط وإجراءات العزل والتهديد بتوقف عجلة الإنتاج وشلل اقتصادي تداعياته ضخمة ومؤثرة، ولا يعلم إلا الله إلى أين تنتهي تداعياته، وهذا ما خلق الجدل الدائر الآن في مطابخ السياسة ومراكز الأبحاث في العالم أجمع.
كما أنه في إطار معقد كهذا تختلف ردود الفعل من قبل متخذي القرار وصانعي السياسة، فنرى البعض يقدّم البشر كأولوية، وصحتهم والحفاظ عليهم في المقام الأوّل، بينما نرى بعضاً آخر يقدّم الاقتصاد، ويخشى توقف عجلات الإنتاج وانهيار الأسواق والذي يرون أنه سيؤدّي إلى نفس النتيجة بالنهاية كما صرح بعض رجال الأعمال من العرب والعجم.
رغم إيماني الشديد بنجاعة النظام الرأسمالي القائم على آليات السوق إلا أنني وفي ضوء هذه الأزمة أتفق تماماً مع التوجه الأول، وأرى أولوية قصوى للحفاظ على حياة الناس وتيسير سبل العزل لهم دعماً لمواجهتهم خطر الفيروس، وربما الدرس المستفاد للحكومات ومتخذي القرار على مستوى العالم في شقيه المتقدّم والأقلّ تقدّماً أنه آن الأوان لإعادة ضبط أولويات الاستثمار لمزيد من البنية التحتية الصحية والإنفاق عليها مع أهمية الإنفاق على التعليم والتوعية ومسارات الارتقاء بالبشر لرفع مستوى تفاعلهم مع المخاطر التي قد تواجه المجتمع في المستقبل، ولربما أثبتت هذه التجربة أنّ الاستثمار في البشر أهمّ من الاستثمار في أدوات الحرب والتسليح وغيرها من النشاطات التي تقف الآن عاجزة تماماً أمام المواجهة، وتعاني الانكشاف المذلّ، ويكبّلها العجز عن إيجاد حلول