بين مجلسي الوزراء والنواب، يشعر "التيار الوطني الحر" أكثر من أيّ وقتٍ مضى أنّ هناك "حملة" سياسيّة تُشَنّ ضدّه، بل إنّ "تحالفاتٍ" بالجملة باتت "تُفصَّل على قياسه"، إن جاز التعبير، ولو بقيت حتى إشعارٍ آخر، "على القطعة".
كثيرة هي الأمثلة التي يسوقها "العونيّون" على ذلك، بدءاً من التصويت المفاجئ، وغير العفويّ برأيهم، الذي لجأت إليه الحكومة في قضية سلعاتا، حين انقسم الوزراء على أنفسهم وضُرب التضامن الوزاريّ في مهده، ليجد "الوطني الحر" نفسه وحيداً في مواجهة الحلفاء والشركاء مجتمعين.
المشهد نفسه تكرّر في البرلمان، حيث كان "التيار" يخوض المعارك وحيداً، الأمر الذي تجلّى بشكلٍ واضحٍ في قانون آلية التعيينات للفئة الأولى، والذي "تفرّد" نواب "الوطني الحر" في التصويت ضدّه، بل إنّ هناك من يقول إنّ بعض المعترضين عليه لم يصوّتوا لصالحه، إلا من باب "النكاية" بـ"التيار".
فهل تؤشّر هذه المعطيات إلى "استهدافٍ ممنهَجٍ" لـ"التيار"، كما تقول أوساطه، التي يحلو لبعضها الحديث عن "تحالفات رباعية" جديدة ضدّه، أم أن ما يحصل لا يتخطّى إطار "التمايز" الذي لطالما تسلّح به "العونيّيون" أنفسهم لتبرير تباينهم مع الحلفاء؟!.
ليس بريئاً!
يصرّ الكثير من مؤيّدي "التيار الوطني الحر" على أنّ ما يحصل في مجلسي الوزراء والنواب ليس بريئاً ولا عفوياً، ويذهب بعضهم لحدّ الحديث عن "أمر عمليّات" صدر لمواجهته بكلّ السُّبُل، في السياسة والتشريع وما بينهما.
بالنسبة إلى هؤلاء، قد يكون كافياً استعراض النقاشات التي دارت حول قانون آلية التعيينات في الدرجة الأولى في الجلسة التشريعية الأخيرة لمجلس النواب، على سبيل المثال لا الحصر، لتثبيت هذا "الانطباع"، إذ كان واضحاً مثلاً عدم تأييد تيار "المستقبل" المُطلَق له، بل تفوّق أحد قانونيّيه المحنّكين، النائب سمير الجسر، في استعراض "عدم دستوريّته"، معطوفاً على كلام رئيس الحكومة السابق سعد الحريري نفسه عن "قابليّته" للطعن.
وعلى رغم كلّ ذلك، جاء تصويت "المستقبل" لصالح القانون، وخرج الحريري ليعتبر الأمر بمثابة "انتصار"، مصوّباً على جري عادته على "التيّار"، الأمر الذي يضعه "العونيّون" في خانة "النكايات" لا أكثر ولا أقلّ، وهم لا يستبعدون انطلاقاً من ذلك، أن يكون "المستقبل" غيّر وجهة تصويته بعدما أيقن أنّ رئيس "التيّار" جبران باسيل وحده معارضٌ للقانون، من دون أيّ حليفٍ أو مساند، ما سيوقعه في "حَرَجٍ" في ضوء "الحملة" التي يشنّها على باسيل.
وإذا كان ثمّة من يعتبر الأمر "واقعياً" بالنظر إلى الخلاف المحتدم بين الحريري وباسيل، منذ إنهاء العمل بـ"التسوية الرئاسية" التي جمعتهما لسنواتٍ ثلاث تحت سقفٍ واحد، فإنّ "الاستفراد" الذي يشكو منه "التيّار" يمتدّ إلى معظم الملفّات، بما يشمل الحلفاء قبل الخصوم، من خطّة الكهرباء وما تتعرّض له من سهامٍ من هنا وهناك، إلى قانون العفو الذي حُمّل "التيار" مسؤوليّة "تطييره"، وكأنّه ارتكب "إثماً"، علماً أنّ استشعار باسيل بذلك دفعه إلى الغمز من قناة الانسحاب "في حال كان ممنوعاً علينا أن نصوّت ضدّ القانون".
"تمايز"... ولكن!
عند الحديث عن "الحلفاء"، ولا سيما على مستوى العلاقة بين "حزب الله" و"التيار الوطني الحر"، يبدو "التبرير" معلّباً وجاهزاً على جري العادة، وهو "التمايز"، باعتبار أنّ التفاهم الذي وقّعه الجانبان قبل 14 عاماً لم ينصّ في أيّ من بنوده على "ذوبان" أيّ فريقٍ سياسيّ في الآخر، بل إنّه أبقى لكلّ من الجانبيْن "خصوصيّته" التي تجيز اختلاف المقاربات.
ومن بوابة هذا "التمايز"، يشرح البعض ما حصل أخيراً في مجلسي الوزراء والنواب، لا سيما على خط قضيتي معمل سلعاتا الذي يتمسّك به "التيار"، وقانون آليّة التعيينات، والذي صوّت فيهما كلّ فريق بصورةٍ مناوئةٍ للآخر. ويقول المعنيّون إنّ قانون آليّة التعيينات مثلاً هو "تفصيل"، وأنّ تصويت "حزب الله" لصالحه كان بديهياً، باعتبار أنّ "الحزب" كان من أوائل المطالبين بتنظيم آليّة التعيين، حين كان وزيره محمد فنيش يتولى وزارة التنمية الإدارية، في حين أنّ اعتراض "التيار" ينطلق من "عدم دستوريّته"، لكونه يضرب "صلاحيات" الوزير المنصوص عليها في الدستور، ولو أنّ هذا الاعتراض جلب الكثير من "الانتقادات" من داخل فريقه قبل خارجه، باعتبار أنّ من يبحث عن الإصلاح والتغيير، لا يمكن أن يرفض آليّة تضمن الإصلاح، بعيداً عن مزاجيّة الوزير، ومحاصصات التعيينات.
وإذا كان "التمايز" نفسه تحكّم بمسار الأمور في مجلس الوزراء عند طرح ملفّ سلعاتا، بل إنّ البعض يقول إنّه كان سبباً في "الحملة" غير المسبوقة التي شنّها بعض "العونيّين" على "حزب الله"، وصولاً إلى حدّ طرح معادلة "البندقيّة والجوع" كما فعل النائب زياد أسود مثلاً، فإنّ معالجة الأمر تمّت، وفق العارفين، من خلال "التسوية" التي يقال إنّ "الحزب" عمل عليها، وتجسّدت في التأكيد على خطة الكهرباء المُقرّة سابقاً، والتي تشمل معمل سلعاتا في حيثيّاتها، ولو أنّ البعض في "التيار" يأخذ على "الحزب" أنّ بعض وزرائه لم يتوانَ عشيّة هذه "التسوية"، عن إعلان عدم تغيير موقفه في حال إعادة التصويت، على رغم تدخّل رئيس الجمهورية ميشال عون شخصياً.
من هنا، قد لا يكون الحديث عن "تمايز" كافياً هذه المرّة لتبرير ما يحصل على خط "الحزب" و"التيار"، الذي لوحظ أنه بدأ العمل على "خطوط" جديدة، بينها "الانفتاح" على رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي نال ما ناله من "ثناء" من جانب باسيل بعيد جلسة مجلس النواب الأخيرة، بعدما كان، على عكس ذلك، عرضة لنقد "التيار" طيلة المراحل السابقة. ويعيد العارفون ذلك إلى بعض "المآخذ" لدى كل من الجانبين على الآخر، ربطاً بالاستحقاق الرئاسيّ المقبل، ورغبة باسيل بالحصول على "وعدٍ" واضح بدعمه فيه من جانب "الحزب"، والتي تعزّزت بعد "صمت" الأخير على ما تضمّنه المؤتمر الصحافي الأخير لرئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية من "إساءات" ليس لباسيل فحسب، بل لرئيس الجمهورية أولاً وأخيراً.
"نظرية المؤامرة"؟!
يشبّه البعض كلام "العونيّين" عن "تحالفاتٍ" تستهدفهم، وعن "حملات" تُشَنّ ضدّهم، بـ"نظرية المؤامرة" التي لا يزال الكثيرون حول العالم يجدون فيها "ضالتهم"، لإظهار أنفسهم في موقع "المظلوميّة"، بشكلٍ أو بآخر.
برأي هؤلاء، فإنّ "التيار" الذي يتحكّم بالشاردة والواردة في التفاصيل اللبنانية، بعدما أتى بحكومةٍ على قياسه، وأطاح بمعظم خصومه ومعارضيه من دائرة صنع القرار، يقول للبنانيين اليوم إنّه "المظلوم"، وإنّ هناك من يريد "استفراده".
لكنّ الأمر ليس كذلك، وفق "منطق" هؤلاء، خصوصاً أنّ أحداً لا يمكن أن ينتظر من خصوم "التيار"، على غرار "المستقبل" مثلاً، شهادات حسن سلوك، باعتبار أنّ المعارضة تبقى خياراً مُتاحاً في أيّ نظامٍ ديمقراطيّ.
المشكلة الفعلية والحقيقية لا تكمن سوى في العلاقة مع "حزب الله"، علاقة يتمسّك بها "التيار" كما "الحزب"، لكنّهما يبحثان عن "مكاسب" فوريّة منها، من دون أيّ اعتبارٍ للآخرين، من حلفاء وشركاء وخصوم، وهنا بيت القصيد...