إختلفت المقاربات الفكرية والسياسية التي طالت حراك الرئيس التركي رجب طيب اردوغان خلال سنوات مضت: هل هو يسعى لفرض عثمانية جديدة تحت عنوان الوحدة الإسلامية؟ أم أنه يكمل ما بدأه مؤسس الدولة التركية الحديثة كمال مصطفى أتاتورك؟ يبدو أن أردوغان اراد الإستفادة من كل المعطيات التي تتيح له إحياء الطورانيّة، مع تعديلات تفرضها الظروف الإقليمية والدولية.
عندما إنطلق أردوغان في مسيرته التوسعية عام 2001، إستند عملياً على نظريات المفكر التركي وزير خارجية حكوماته أحمد داوود اوغلو الذي كان أطلق معادلة "صفر مشاكل". لم يتبيّن ان تلك المعادلة تهدف لتحقيق سلام داخلي ومع الخارج، الا بقدر ما هي طمأنة موقّتة للمحيط الإقليمي من أجل التوسع الطوراني. كان أردوغان يثبّت إقتصاد تركيا، ويقيم إتفاقيات تجارية وصناعية وسياحية دولية موسّعة للتفرغ بعدها نحو تمدّد متدرّج.
إنكشف المشروع في سوريا عام 2011، وما بعده، في سنوات أقدم خلالها الأتراك على نهب شمال سوريا، وخصوصا قطاع الصناعة الحلبيّة، الذي كان يقلق أنقره، ويحقّق الاستقلاليّة الاقتصاديّة السوريّة. لم تكن حينها غيرة أردوغان على الإسلاميين الاّ من باب أن "الإخوان" هم بيئة خصبة يستغلّها أردوغان لإستخدام الحركة في التمدّد الطوراني المتجدّد، خصوصاً في بلاد العرب.
كانت سوريا هي جسر العبور نحو التتريك، في وقت تفرّج فيه العرب على إغتيال سوريا على يد الأتراك، الاّ أن الصمود السوري ودعم حلفاء دمشق للجمهوريّة العربيّة السوريّة، احبط مخطط التتريك في كل سوريا، ليقتصر على شمالها في أشكال ومسمّيات إسلامية المظهر، طورانية الجوهر.
واذا كانت قطر حليفة أردوغان بعلم وتوجيه ورضى أميركي، فإنّ تدخّل تركيا في ليبيا ايضاً يأتي بالعلم والرضى ذاته.
يحاول اردوغان بعث الطورانيّة من خلال حديثه عن مليون ليبي من أصل تركي، مما يعني انه ينسف عربيّة ربع سكان ليبيا. هذا ما حاول أن يرسّخه في بلاد الشام، ويكرّس شرعيّة تدخلّه السياسي والعسكري تحت عنوان حماية مواطنيه من أصول تركية في ليبيا والعراق اضافة الى سوريا.
لو كان العرب مدركين لحجم التتريك الآتي تدريجياً الى مساحات أوسع، لكانوا دعموا سوريا في حربها ليس فقط للدفاع عن أرضها، بل لإستعادة سكّانها في لواء الإسكندرون، وهم من اصول سوريّة، ويتحدّثون العربيّة ولم ينخرطوا بالتتريك.
اذا كان أردوغان يحاكي عواطف المسلمين مستغلاً التراجع العربي، والتخبّط القائم بين المذاهب الإسلامية في الإقليم، والإرباك المشرقي، والضعف الأوروبي، فإنّه ينسّق بشكل كامل مع الأميركيين، فمن دون موافقتهم لا يتدخل لا في سوريا ولا في ليبيا ولا يُرسل قوات حماية لدولة قطر.
يرفع اردوغان الهوية الإسلامية التي تجذب المسلمين، كما الحال في شمال لبنان والبقاع الآن، حيث يتمدد الأتراك نفوذاً وتأثيراً بغياب العرب عن لبنان، لكن الغاية الطورانيّة هي الهدف. إذ أنّها حركة قومية ظهرت بين الأتراك أواخر القرن التاسع عشر، هدفت إلى توحيد أبناء العرق التركي، الذين ينتمون إلى لغة واحدة وثقافة واحدة. إشتقّ اسمها من منطقة طوران، الممتدّة بين هضبة إيران وبحر قزوين. وهذه الحركة هي التي اسقطت الخلافة العثمانيّة، لكنها عملت على التمدّد الخارجي بروح القوميّة التركيّة، خصوصًا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وإستقلال خمس دول تنتمي إلى النسب التركي: أذربيجان وكازاخستان وقيرغيزستان وتركمانستان وأوزبكستان.
إضافة الى تحسين علاقاته مع تلك الدول، صار أردوغان نجماً في باكستان بإعتراف رئيس حكومتها عمر خان.
لذا، فإن الطموح الاردغاني هو تمدّد تركي وليس إسلاميًّا في بلاد العرب. فهل نكون في مواجهة طورانية جديدة؟.