«وَلي بَينَ الضُلوعِ دَمٌ وَلَحمٌ هُما الواهي الذي ثَكِلَ الشَبابا
تَسَرَّبَ في الدُموعِ فَقُلتُ وَلّي وَصَفَّقَ في الضُلوعِ فَقُلتُ ثابا
وَلَو خُلِقَتْ قُلوبٌ مِن حَديدٍ لَما حَمَلَتْ كَما حَمَلَ العَذابا»
يعذرني اليوم مئات الملايين من شهداء العقائد السياسية والاجتماعية، فقد لا يعجبهم القول إنه لا توجد رسالة خالدة في أيّ عقيدة، ومع ذلك فحتى العقائد العلمانية كانت تلجأ إلى مخاطبة روحانية للأتباع، وذلك لتسهيل طريق التضحية وزرع دروب جلجلة الشعوب بأكاليل المجد والافتخار، واستخدام تعبير استشهد بَدل قُتل باستعارة من الأدبيات الدينية، والتي هي أيضاً كانت ولا تزال قيد الاستعمال في السياسة وتنظيم الأتباع، والتحفّز للسيطرة على «الآخر» المختلف، أو المتخلف، أو الأقل تطوراً في سلّم الكائنات، أو الكافر... كلها مجرد مسوغات لعنوان واحد هو «إرادة السلطة».
بالعودة إلى واقعنا، فأنا غير معترض ولا مُمتعض من بعض كلام الشيخ أحمد قبلان، وبالأخصّ ما هو عن صفقة لبنان المدعوة تلطّفاً «الشراكة الوطنية». بكل وضوح أنا أسمّيها الشركة الوطنية المساهمة بين زعماء الطوائف، وهذه الشركة أسهمها مبنية على مبدأ «الغيرية»، أي أنّ المواطنة مبنية على أنّ المواطن المسلم هو غير المواطن المسيحي! بالطبع لم تُعر الشركة الوطنية المساهمة أي اهتمام لتفسير الغيرية المواطنية، فهل هي بيولوجية؟ أي أنّ بيولوجيا المسلم هي غير بيولوجيا المسيحي. أم بناء على ارتياد الكنائس بدل الجوامع؟ أم على أساس تصنيف اجتماعي؟ أي أنّ مجتمع المسلم هو غير مجتمع المسيحي... ببساطة ليس الأمر أيّاً من كل هذا، وإن كان يستند إلى شيء منه، من دون إعلانه. القضية فقط هي الاتفاق على تقاسم السلطة على أساس الغيرية، أي أنّ الدافع وراء الشراكة هو إرادة السلطة ومنافعها.
هذه الشركة بنيت حينها على أساس موازين القوى التي كانت قائمة في النصف الأول من القرن العشرين، وهي موازين غير ثابتة مع الزمن لا في الديموغرافيا ولا في السياسة ولا في الاقتصاد ولا في الاجتماع، لكنّ الشركاء يومها تَعاموا عن كل ذلك، وهذا ما أورثَ البلد هذا النوع من التصلّب في الفكر، أو الجمود في المنطق، وأدى مثلاً إلى سلسلة الحروب الأهلية المستدامة، حتى في أيام «السلم الأهلي». وبالتالي، فإنّ هذه الشراكة المتحجرة أوصلتنا اليوم إلى ما ينهار بسرعة أمامنا.
أحد أهم أسباب الانهيار، وإن لم يكن كله، هو كامن في الأساس في منطق التصنيف العنصري للمواطنين وهو يشمل كل الطوائف، وحتى من هم يدعون الخروج من التصنيف اجتماعياً وثقافياً، نراهم يعودون إليه كمرجعية «واقعية» لتسويغ منطق الاستناد إليه!
إرادة السلطة السنية-المارونية، وهنا لا أتحدث عن أفراد «الجاليتين»، بل عن زعماء الطوائف تلك، أغفلوا الآخرين في منطقهم. فهَيمن الموارنة على الطوائف الأخرى المسيحية، وهَيمن السنّة على الطوائف الأخرى الإسلامية. يعني انّ الآخرين لم يحصلوا على حصتهم في الشركة! وبالتالي، عندما أصبح رأسمال من أغفلوا في التركيبة الوطنية العجيبة معتبراً، أصبح من المنطقي المطالبة بحصة في الشركة تتناسب مع رأس المال.
بالعودة إلى كلام الشيخ أحمد قبلان، فإنّ الأمر لم يبدأ من اليوم. فتجميع رأس المال بدأ منذ أيام الإمام المُغيّب السيد موسى الصدر، وهذا الرصيد يستند في أساسه إلى أفكار جماعية مسبقة ومتراكمة تعود إلى أساطير ووقائع عمرها من عمر التاريخ الأعمى. وأنا أقول الأعمى لأنه بالأساس يستند في روايته إلى انطباعات الروات في لحظة ما وانتماء ما، ولكن لا أحد يعرف بالفعل ما كان أصل القضية وسببها، إلّا إذا كان الأصل منذ الأساس يختصر برغبة السلطة.
ما لنا ولكل ذلك الآن، فالحديث اليوم يعود بنا إلى الواقع، والواقع هو أنّ الشركة الوطنية أفلست، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، ومع قناعتي أنّ اتفاق الطائف كان يمكن أن يشكّل نقطة انطلاق لبناء وطن بدل الشركة، واقتناعي هو انّ المشروع الاقتصادي المفتوح والمُتاح للجميع كان في مكانه فتح الباب لذلك، لكن هذا المشروع بالذات الذي يتناوَب الجميع على هجائه اليوم، تمّ اغتياله، ونسبت له كل آثام فشل الشركة في إعطاء صفة المواطن لكل المواطنين. هذا بالذات ما يجعلني اليوم أقول إنّ دفن الرأس في الرمال، وكَيل الاتهام على «الثلاثين» سنة الماضية، ما هو إلّا محاولة جديدة للتنصّل من المسؤولية، وبالتالي الاستمرار في سياسة الفصل العنصري المذهبي الطائفي، بدل البحث عن حل مفيد. من هنا، وبغضّ النظر عن خلفيات الشيخ قبلان السياسية المرتبطة كما يبدو بعقيدة «حزب الله»، فإنّ طرح الأمر بالعلن ومن بعده حديث نصر الله عن «تطوير اتفاق الطائف»، قد يؤشّر إلى أنّ مشاريع المنطقة بأجمعها ربما وصلت إلى مرحلة القرار، أو ربما إلى مرحلة الانفجار ما قبل القرار. لذلك، فإن كان هناك أمل، ولو كان ضئيلاً، لتفادي الانفجار والقفز إلى القرار، فعلى الأمور أن تطرح بكل وضوح في مجلس النواب. أي انّ أي تعديل أو تطوير يمكن وضعه في إطار تعديل دستوري متكامل يتم نقاشه بعقل منفتح، لكن ليس لبناء شركة جديدة على أساس الإفلاس، بل على، إمّا مواطنة متساوية، أو فراق بالحسنى، وهو أبغض الحلال. فإن كان هذا ما دفع الشيخ قبلان للكلام، فإنّ الأمر جدير بالنقاش، أما إذا كان الهدف هو قَضم حصة أكبر في الشركة المفلسة، فإنّ المسالة تعني متاريس جديدة. ما نراه اليوم في لاسا، وفي التمترس الطائفي بالموقف من قانون العفو في مجلس النواب، ما هو إلّا مؤشرات إلى أن لا أحد منّا تَعلّم.