إذا كان صاحب القرار الأقوى في صندوق النقد الدولي هو الولايات المتحدة، وصاحب القرار الأقوى في الحكومة اللبنانية هو «حزب الله»، فمن البديهي القول: عندما تتفاوض هذه الحكومة مباشرةً مع الصندوق، يكون هناك، في الموازاة، مقدار معيّن من التفاوض غير المباشر بين واشنطن وإيران، من خلال حلفائها اللبنانيين. وهذا يعني أنّ المفاوضات حول المساعدات ليست «بريئة» و»تقنية»، بحيث تقتصر على الحسابات والأرقام ومفاهيم الإصلاح الإداري. إنّها سياسية في الدرجة الأولى.
مع وصول المفاوضات مع صندوق النقد الدولي إلى الجولة الثامنة، ازدادت الصورة وضوحاً. فالصندوق لم يتقدَّم بعد بأي طرح. حتى الآن، هو اكتفى بأفكار عامة ونصائح تتعلق بالإصلاح، وطلبَ من اللبنانيين أن يوحِّدوا أرقامهم وبرامجهم، ليعرف كيف يمكن أن يستجيب لطلب المساعدة.
المطلعون يقولون: ما زلنا اليوم في مرحلة جسّ النبض. ولكن، عندما يبدأ الصندوق مفاوضاته بجديّة، ويطرح شروطه، سيكون الجانب اللبناني أمام التحدّي: هل هو قادر فعلاً على التزامها؟ هل هو جاهز للإصلاح المطلوب مثلاً في الكهرباء وضبط التهريب عند الحدود والمرافئ، وهل سيتصدّى للتهرُّب الضريبي، وهل سيتمّ التزام الشفافية في المناقصات والتعيينات، وهل ستُراعى استقلالية القضاء وتُرفَع الأيدي عن هيئات الرقابة والمحاسبة فتقوم بواجبها؟
عندما يوحّد الجانب اللبناني أرقامه، بين وزارة المال وحاكمية المصرف المركزي وجمعية المصارف، سيقف مصدوماً بالشروط التالية. وثمة مَن يتوقع خلافاً لبنانياً- لبنانياً عند بلوغ هذه النقطة. فـ»حزب الله» ليس مستعداً لالتزام هذا المفهوم من «الإصلاح» الذي يمسّ بحركته ومكتسباته وبيئته على ضفتي الحدود بين لبنان وسوريا، لا أمنياً فحسب، بل أيضاً اقتصادياً واجتماعياً.
في المقابل، القوى السياسية الحالية، التي تستثمر الدولة ومؤسساتها ومرافقها وتلزيماتها، ستقاتل للاحتفاظ بهذه المكاسب التي تشكّل جزءاً من حاجاتها الزعاماتية. وفي هذه الحال، سيتكرَّس تقاطع المصالح التقليدي ما بين «حزب الله» وهذه القوى. فعلى هذا التقاطع قامت كل تركيبات السلطة طوال عقود مضت، وكان السوريون مظلته حتى العام 2005.
على الأرجح، سيتحالف الطرفان، «الحزب» والقوى السياسية، من أجل «تزحيط» صندوق النقد ومطالبه الإصلاحية، بعد «التشاطر» وتحصيل المساعدات الموعودة منه ومن الدول والمؤسسات المانحة. وفي العادة، كانت الحكومات المتعاقبة في لبنان تمارس «ابتزاز» المؤسسات الدولية المانحة وموظفيها، ولاسيما البنك الدولي، فتستجلب المساعدات من دون أن تتقيّد بشروط الشفافية في التلزيمات.
ولكن، المسألة اليوم باتت مختلفة تماماً. فصحيح أنّ الأزمة المالية انفجرت قبل شهور قليلة، لكنها وليدة احتقان بدأ قبل أكثر من عامين، مع قرار إدارة الرئيس دونالد ترامب نزع أوراق القوى التي تمتلكها إيران في لبنان، عسكرياً وأمنياً واقتصادياً ومالياً.
وفي التعبير الدقيق، لم تتقصَّد واشنطن دفع لبنان إلى انهيار مالي واقتصادي ونقدي. فهي لو أرادت ذلك لسقط لبنان وقطاعه المصرفي واقتصاده واستقراره السياسي في لحظة. لكنها في الواقع رفعت غطاءها وغطاء القوى الدولية والعربية الحليفة عن الواقع اللبناني المهترئ… فانهار من تلقاء نفسه، أو هو يشرف على الانهيار.
لقد تهرَّب الطاقم السياسي الحالي طويلاً من فكرة اللجوء إلى صندوق النقد، لإدراكه «عواقب» الوقوع في القبضة الأميركية، لكنه عاد إليه مرغماً بعد انسداد الأبواب. وفي أي حال، لو قام هذا الطاقم بعملية إصلاح حقيقية تستردّ الأموال والمرافق والمؤسسات المنهوبة، لاستطاع جمع 20 مليار دولار أو أكثر، ما يغنيه عن أي تدخّل خارجي. لكن لجوء هذا الطاقم إلى الإصلاح الحقيقي يعني انكشافه ونهايته سياسياً.
في المفاوضات مع الصندوق، هاجس «حزب الله» هو المعابر وأقنية المال التي يريد الأميركيون قطعها لتجفيف موارده ومنع تسرُّبها إلى النظام المصرفي الأميركي. وأما هاجس القوى الأخرى فهو الأموال التي قامت وتقوم بنهبها في مرافق الدولة وقطاعاتها ومؤسساتها.
وعلى الأرجح، تراهن هذه القوى على أنّ «حزب الله»، بدعم إيران، سيتمكن من «إحباط» شروط الإصلاح، لأنّها تمسّ بحركيَّته. وكان الأمين العام لـ»الحزب» السيد حسن نصرالله واضحاً في تحديد الموقف من المفاوضات مع صندوق النقد، إذ كشف في مقابلته الأخيرة أنّ «الحزب» قال للحكومة «جَرِّبوا المفاوضات… وستكتشفون بأنفسكم»!
هنا يصبح التحدّي كبيراً، بل خطراً، لأنّ المفاوضات مع صندوق النقد ستصل إلى مفترق فاصل. وليس بسيطاً أن يقوم بلدٌ بمفاوضة الصندوق ثم ينسحب على خلافٍ معه حول الشروط الإصلاحية، خصوصاً إذا كان هذا البلد يرزح تحت أعباء ديون هائلة، وينتظره الدائنون الأجانب «على الكوع» ليقرّروا ما إذا كانوا سيرفعون دعاوى قضائية ضده.
ولمزيد من الإيضاح، يتبلَّغ لبنان منذ أشهر رسائل أميركية متعاقبة، تُحدِّد الأسس التي يمكن أن يُبنى عليها الحلّ في لبنان. وعلى الأرجح، هذه الرسائل تشكّل الغطاء السياسي للمفاوضات التي يخوضها اليوم الصندوق. وفي الأيام الأخيرة، أُطلِقت هذه الرسائل من خلال مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط ديفيد شنكر وسفيرة الولايات المتحدة في بيروت دوروثي شيا.
واستنتج بعض المطلعين 3 اتجاهات عبَّرت عنها ضمناً المواقف الأميركية الأخيرة، ولاسيما المقابلة التلفزيونية الأخيرة التي أجريت مع السفيرة شيا، وهي:
1 - لا مساعدات يمكن أن تتغذى بها طبقة سياسية موسومة بالفساد.
2 - لا مساعدات يمكن أن تصل إلى «حزب الله» الذي يسيطر على الحكومة.
3 - لا مساعدات لطبقة سياسية تطلق الوعود الإصلاحية منذ عقود وتنكث بها.
وإذا كان استنتاج هؤلاء المطلعين في محلّه الصحيح، فذلك يعني أنّ تغييرات كثيرة مطلوبة في لبنان قبل أن «تنفكَّ دِكَّة» صندوق النقد، ويمكن اختصارها بعنوان واحد: «سلطة نظيفة بكل المعايير». وكل هذا يتمّ على وقع قانون «قيصر» الذي بات على وشك إحداث هزّة بين سوريا ولبنان، وفي داخل كل من سوريا ولبنان.
هل باتت الساحة جاهزة للتغيير السياسي؟ وهل «الانتفاضة الثانية» ستنضج هذا التغيير؟ في الانتظار، مسار الانهيار هو الطاغي.