"I CAN’T BREATHE" عبارة لفظها الاميركي، أسود البشرة "جورج فلويد" وأسلَم الروح تحت ركبَتي رجل ابيض من شرطة "مينيابوليس" قطعَ عن عنقه وظهره الاوكسيجين لمدة تسعة دقائق أمام عدسة كاميرا تلفون ذكي لامرأة اميركية من أصول آسيوية صوّرت الواقعة، وهي تناجي الشرطي دون استجابة لها بجملة "يقول لك انه يختنق".
اندلعت الاحتجاجات غير السلميّة في شوارع ولايات أميركا واجتمع فيها البيض مع السود مندّدين بمقتل فلويد، معترضين على كلّ شيء وحاملين يافطات ضدّ الشرطة، العنصريّة، التمييز، السياسة، الاقتصاد... كما كلّ الثورات التي تعرّي بمطالبها النظام القائم.
لطالما درست علوم الاجتماع، فلسفة السياسة والنفس المجتمعية واقع الشعوب المركبة والمتكونة من مجموعات مختلفة دينيّة او إثنيّة او عرقيّة ووضعت رؤى للحكم الأمثل فيها، لكن طبيعة الأنظمة الأمنية بقيت الى حد ما بعيدة عن تكوين منظومة علوم مستقلّة تُبحث منفصلة عن النظم السياسية القائمة.
من هذا المنطلق، نجد أنّ العصر الحديث بوقائعه الأمنيّة المكشوفة لا سيّما في موضوع التعامل مع ظاهرتين عالميتين هما: الثورات والتحقيقات؛يؤسس لمجموعة علوم بحت أمنيّة غير مرتكزة فقط على التقنيات بل تغوص اكثر في الفلسفة الأمنيّة.
ليست جريمة مقتل فلويد على يد رجل أمن الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة، ولكنها حتمًا المنطلق لنضال عالمي شعبي ضد العنف الأمنيّ، ومنعطف عالمي لسياسات الدول مع النظم الأمنيّة. السبب في ذلك هو انتشار قسوة الحدث من "أميركا"، الدولة التي ارادت لعب دور "بوليس عالمي". لذا، لن يتوقّف الأمر عندها. الحقيقة الكبرى التي لم يكن من مصلحة أحد في السلطات العامّة الإضاءة عليها هي أن العنف والتعذيب سلوك أمني عالمي.
مرت عصور على شعوب في الدول العربيّة وهي تصرخ عن عذاباتها الناتجة عن ممارسات في مراكز الشرطة، التحقيقات، السجون، الأسر إلخ...ورغم محاولات تدويل قضايا الشعوب العربيّة من قبل الجمعيّات والناشطين، بقيَ التفاعل الدولي مع قضايا الشعوب العربيّة خجول حدّ "التبرير العنصري".
رفعت الأمم المتّحدة الراية ضدّ التعذيب بعد توثيق ملايين الحالات والقضايا المأساوية حول العالم، والتي عُرضت في المؤتمرات وجلسات مجلس حقوق الانسان وورشات العمل الدوليّة حول قضايا المهاجرين والموقوفين والسجناء والاسرى والمعتقلين. بتاريخ ١٠ كانون الأوّل ١٩٨٤ اعتمد نصّ اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة لحقوق الإنسان من جانب المفوضية السامية للأمم المتحدة، وهي تهدف إلى منع التعذيب في جميع أنحاء العالم ووضعت موضع التنفيذ في ٢٦ حزيران ١٩٨٧. -حُدد لاحقا تاريخ ٢٦ حزيران االيوم الدولي لمساندة ضحايا التعذيب-.
في العام ٢٠٠٢ وُقّع البروتوكول الإضافي للاتفاقيّة ووضع موضع التنفيذ في العام ٢٠٠٦. عمدت الدول الموقّعة على الاتّفاقية الى سن تشريعات وطنيّة تكافح "التعذيب" وتحمي كرامة وحقوق الضحايا، وكذلك فعل لبنان .
بتاريخ ١٩ أيلول ٢٠١٧ أقرّ البرلمان اللبناني قانون مناهضة التعذيب تحت الرقم ٦٥ ودخل حيز النفاذ في ٢٦ تشرين الأوّل ٢٠١٧.
اليوم في العام ٢٠٢٠ يمكن القول انّ هذا القانون ورغم بعض الملاحقات المسلكيّة والعدليّة لعدد من الأمنيين الذين اتّهموا بارتكابهم العنف بحقّ موقوفين، لم يحقّق بعد الغاية القصوى الإنسانيّة والوطنيّة المنشودة منه، لا سيما مع عدم تفعيل "الهيئة الوطنيّة لحقوق الانسان"، وعدم تضمّنه العديد من توصيات الاتفاقية الدوليّة.
هذا المشهد القانوني-الواقعي يتكرر في اكثر من دولة. عصر العولمة يوحّد القضايا الشعبيّة المطلبيّة رويداً رويداً. انقلب المشهد من شعوب في خدمة أحزاب ونظم الى أحزاب ونظم في خدمة الشعوب، وإلا الثورة والعنف مقابل العنف.
العنف الشعبي مبرّر في الضمير العالمي لأن ظلم السلطة أشدّ وطأة على المظلوم من الظالم، ولكنه ايضا موضع محاسبة لتعرّضه للآخرين وأملاكهم. أما العنف الأمني فمندد به دوليًا وغير مُقَونن وغير مبرّر وموضع محاسبة في زمن السلم ومحددّة صوره حصرا في زمن الاضطرابات الشعبيّة.
ماذا عن التحقيقات الأمنية؟؛يتجه العالم الى نشر وتدريب ركائز علم "تقنيات التحقيق الحديثة" في مراحل التحقيقات الأوليّة. انها تقنيات تدفع المشتبه به الى الاعتراف بالحقيقة دون استخدام وسائل التعذيب الجسديّة والمهينة اللاإنسانيّة، وتعتمد على التكنولوجيا والحنكة في كشف الأدلّة الجرميّة ومن شروطها أن تكون مصوّرة ومسجّلة بالكامل حماية للمحققين والموقوفين.
يُلاحظ انّ هذا التطور سواء البحثيّ او التقني في النظم الأمنيّة يسري ببطء شديد في العديد من الدول سواء العربيّة أم الغربية؛ وكأن الصراع يحتدم بين شعوب تتطور وتنفتح وتتمسك بكراماتها ونظم أمنيّة تأبى اضمحلال سطوتها.
هذا الصراع سينعكس حتمًا عنفاً اكبر. في السياسة الدولية المستجدة، لن تقبل اي دولة صفة المتّهمة المعنِّفة لشعبها لا بل سيلعب جميع المتهمين من الدول لورقتين :
*دوليًا، رفع راية "مناهضة العنف الأمني" نصرة للشعوب. رايات سلمية او عسكريّة.
*محليًا، اتهامات عشوائيّة بالإرهاب والتخوين نصرة للنظام. اتهامات رسمية او فئويّة.
واضح ان حملات الاعتقالات ستتفاقم والعودة الى البدء ستتسارع؛ أيّ احتجاجات متنقلة مناهضة للعنف الأمني، سواء تحركات شعبية او نضالات مدنيّة ثقافيّة وتشريعيّة وإعلاميّة. حلقة مفرغة ستدور وتحكم الخناق على العنف الأمني فيختنق ليتبدّى النظام الأمني الكوني الجديد القائم على احترام اكثر للإنسان. الإنسانيّة لم تتوقّف يوما عن التطور والبشر اليوم شهود وشهداء على ذلك وما من ولادة الا مع ألم.