لم يكن أحد يتوقع حجم المصائب التي انهالت على رأس دونالد ترامب، فمع بداية السنة الجارية كان النقاش الدائر في واشنطن حول العناوين العريضة لسياسة ترامب خلال ولايته الثانية، حتى انّ خصومه «الديموقراطيين» خاضوا الانتخابات التمهيدية لاختيار مرشحهم الرئاسي بشيء من اللامبالاة وبكثير من الفتور انطلاقاً من اقتناع ضمني بأنّ المعركة الرئاسية محسومة النتائج مسبقاً.
لكنّ الكوارث توالت، بدءاً من جانحة «كوفيد 19» والتي أدّت الى اكتشاف فضيحة «العجز» و«النقص» في الوسائل الطبية الاميركية، ومعه ازدياد مستوى النفور لدى خصوم ترامب والأهم العداء والطلاق مع الاميركيين المُنتمين الى الفئة العمرية ما فوق الستين عاماً بعد انحياز ترامب لمصلحة الاقتصاد ولو على حساب حياة هؤلاء، مع نتيجة قاربت حتى الآن المئة وعشرة آلاف ضحية. ومعه حلّت الكارثة الاقتصادية، وهي الورقة الاساس التي كان ترامب يعوّل عليها في حملته لإعادة انتخابه. فأقفلت الاسواق وأفلست شركات وتهدّد قطاع النفط بقوة، وبلغ عدد العاطلين عن العمل نحو الاربعين مليون اميركي، لتعود الصورة بالاميركيين الى مرحلة الكساد في العام 1928.
ثم جاء خنق شرطي متعصّب لرجل اسود يدعى جورج فلويد ليعيد إحياء الانقسام الداخلي، والذي بدا عميقاً جداً مستعيداً مشهد ستينات القرن الماضي، وكل ذلك كان مرفقاً لمواقف «وُصفت» بالاستفزازية لترامب، وهو الاسلوب الذي تميّز به منذ دخوله المثير الى حلبة الرئاسة الاميركية.
صحيح انّ الاحداث مع اصحاب البشرة السوداء تتكرر بمعدل مرة كل بضع سنوات، لكن ما يحصل اليوم هو اكبر واعمق وأخطر بكثير من أحداث عادية، وهو يشبه ما حصل في العام 1968 إثر اغتيال مارتن لوثر كينغ وما تلاه من تمرّد تَمّت ترجمته في صناديق الاقتراع لمصلحة المرشّح الجمهوري يومها ريتشارد نيكسون، وبمثابة الثأر من إدارة جونسون.
والآن توسعت الاحتجاجات بما يشبه ما حصل عام 1968 فهي شملت اكثر من 75 منطقة، وتمّ حظر التجول في نحو 40 مدينة كبرى. وصحيح انه ما يزال هنالك نحو 5 أشهر فاصلة عن يوم فتح صناديق الاقتراع وهي مدة كافية لاستعادة الخسائر الشعبية، الّا انّ نَيل جو بايدن تقدماً بنحو 10 نقاط على ترامب في آخر استطلاعات للرأي، إنما يعني كثيراً، خصوصاً انّ الاحداث الدائرة ستدفع في اتجاه رفع مستوى المشاركة وهي «مفتاح» فوز أيّ من المرشحين.
ترامب كان يخطّط لتعويض خسائره بسبب الازمات الاقتصادية، بإعادة رعاية وإبراز التفوّق العلمي الاميركي، وهكذا ذهب الى فلوريدا وظهر امام الكاميرات وهو يشاهد الاطلاق الناجح لصاروخ الالتحام مع محطة الفضاء الدولية كنقطة نجاح إضافية باهرة. لكن، وفي الموعد نفسه، كان الانقسام الداخلي يشتدّ ويتصاعد وهو لَحظ قتلاً ونهباً وتخريباً وإشعال حرائق وإغلاق مناطق، ودعوات جماعية الى اقتحام المنازل وطرد الناس.
وصورة إطلاق الصاروخ من «كيب كينيدي»، حجبتها أخبار نقل ترامب الى الملجأ الرئاسي والمخصّص لحالات بالغة الخطورة في الحروب وفي مواجهة العمليات الارهابية، وذلك تحت ضغط التظاهرات امام البيت الابيض. وهو ما حصل مرة واحدة سابقاً خلال هجمات 11 ايلول 2001 حين نقل نائب الرئيس ديك تشيني فيما كان الرئيس جورج بوش يومها في فلوريدا. وحاول ترامب التعويض عن صورة الضعف التي نتجت من نقله الى الملجأ الرئاسي فاقترف خطأ اكبر. فبعدما أمر بتحليق طائرات حربية فوق واشنطن كتعبير عن القوة، طلب من رجال الامن استخدام العنف المفرط لإبعاد المتظاهرين عن البيت الابيض، ليذهب هو سيراً الى كنيسة «سان جون» القريبة والتقاط صور أمامها.
وهذا ما دفع بأسقف واشنطن الكاثوليكي ويلتون غريغوري صاحب البشرة السوداء الى انتقاد تصرف ترامب، حصوصاً انّ الكنيسة تابعة للطائفة الكاثوليكية وسُمّيت على اسم البابا الراحل يوحنا بولس الثاني. وقال الاسقف: «أجد من المحيّر والمستهجن اساءة استغلال اي مزار كاثوليكي والتلاعب به بطريقة تنتهك مبادئنا الدينية، والتي تدعو للدفاع عن حقوق جميع الناس حتى أولئك الذين قد نختلف معهم»، وهو ما يعني خسارة اضافية لترامب. وصحيح انّ هذه الاحداث ستزيد من حماسة وتأييد المجموعات البيضاء المتعصبة، لكنها ستفقده شرائح واسعة من الناس موجودة في المدن الكبيرة وتؤمن بقيَم المساواة والعدالة. والأهم انها ستحفّزهم على المشاركة في الاقتراع، وهو ما شكّل نقطة الضعف الرئيسية في معركة فشل وصول هيلاري كلينتون. جو بايدن يفكر في المشاركة في جنازة فلويد يوم الثلاثاء المقبل. وهو ايضاً بات يميل الى تسمية نائب للرئيس اسود البشرة، في الاساس كان يفكر بامرأة، واليوم بات يفكر بامرأة سوداء، وقيل انه طرح الفكرة على ميشيل اوباما زوجة الرئيس الاميركي السابق، لكن الاخيرة مترددة لأسباب عدة.
وفي المقابل سُجل تضعضع في صفوف الحزب الجمهوري لدرجة انّ الرئيس السابق جورج دبليو بوش يتجه الى إعلان معارضته لترامب علناً. وكذلك فإنّ المتأثرين بجون ماكين بدأوا يرفعون اصوات انتقاداتهم.
وترامب منشغل بالبحث عن ولاية اخرى غير كارولينا الشمالية لعقد المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري بعد رفض حاكمها الديموقراطي إلغاء الحظر المفروض على التجمّعات الكبرى، وهدف المؤتمر تثبيت ترشيح ترامب.
المشكلة انّ ترامب هاجم حكام الولايات بعنف واتهمهم ضمناً بالتراخي في المعالجة الامنية، وطلب منهم القبض على المتظاهرين وتعقّبهم ووضعهم في السجون لمدة 10 سنوات وبعد ذلك سيهدأ كل شيء. الواضح انّ ترامب تحدث بنبرة مضطربة كما لو انه فقد السيطرة على نفسه.
لا شك في أنّ حملة ترامب الانتخابية تعاني، لكن ما يزال هنالك بعض الوقت لعمل شيء ما كما يعتقد فريقه الانتخابي، هنالك من طرح تحقيق إنجاز خارجي من خلال إنجاز تفاهم مع ايران. فالقنوات غير المباشرة موجودة وتتحرك ويبقى إنجاز التفاهم الكبير. فقريباً يصدر التقرير الفصلي الاخير عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية حول البرنامج النووي الايراني في ظل خلاف واضح بين واشنطن من جهة ولندن وباريس وبرلين من جهة ثانية.
لكنّ المشكلة انّ اسرائيل جاهزة لا بل تتحفّز للتخريب على ذلك.
أضف الى ذلك انّ ايران لم تعد متحمّسة بعد تراجع حظوظ ترامب. فلماذا منحه ورقة ثمينة لمعركته الانتخابية؟ أضف الى ذلك ايضاً انّ الانتظار يبقى افضل، خصوصاً انّ وصول الديموقراطيين سيكون لمصلحتها، فهم صرّحوا مراراً انهم مع العودة الى الاتفاق النووي السابق مع بعض التعديلات. لكن ماذا سيعني كل ذلك بالنسبة الى لبنان؟
الأرجح انّ تظاهرات الشارع الاميركي ستحفّز اكثر الشارع اللبناني وستزيد من حماسة المتظاهرين، ولكن قد تظهر هذه المرة قوة دافعة سياسية، ما سيعني انّ الشارع سيكون اكثر قسوة، وربما أشد عنفاً. وفي اختصار فإنّ الانتفاضة الشعبية عائدة بدءاً من نهاية هذا الاسبوع ولكن بوجه جديد. والمشكلة انّ الجوع دخل معظم البيوت وقهر نحو نصف العائلات، بعد انهيار العملة الوطنية والاقتصاد وإقفال الشركات وازدياد نسبة العاطلين عن العمل، وتراجع ثقة الناس بالطبقة السياسية الحاكمة ووصولها الى الحضيض.
في التقارير الامنية انّ السرقات والاعمال المُخلّة بالأمن تضاعفت اربع مرات، وهيبة الدولة اختفت منذ زمن. وهذا الوضع مرشح للتفاقم خلال الاشهر المقبلة، والسرقات والاعمال المخلّة بالأمن ستزداد بطبيعة الحال، من دون وجود بشائر حلول. فمساعدات صندوق النقد الدولي شروطها قاسية وهي لن تحصل قريباً، والطبقة السياسية لم تنفذ ولا حتى إصلاحاً واحداً، لا بل على العكس.
فكيف سنتوقع من رجال الامن، وقد ازداد فقرهم، ان يقوموا بحماية طبقة سياسية موصومة بالفساد؟ والأخطر انّ رائحة السياسة ستكون حاضرة هذه المرة في الشارع، ما يفتح ابواب التوقعات المقلقة.
قال احد الديبلوماسيين الاوروبيين: «عليكم أن تصمدوا حتى الخريف المقبل، فلا حلول قبل ذلك». لكنّ المشكلة انّ لبنان خسر مناعته وعوامل حمايته.