عندما إنطلقت الأحداث السورية عام 2011 كان إستهداف دمشق يتمّ تحت عنوان "الربيع العربي"، "حرية الشعب"، "الديمقراطية". يومها أرادت عواصم غربيّة وعربيّة ان تفرض تغييراً سياسياً في سوريا عبر غسل عقول الشعب، أو إثارة غرائز طائفية أو مناطقية أو عرقيّة. حاكت تلك العواصم كل مكوّنات الجمهورية العربية السورية بحسب إنتماءاتها التي ارادتها أن تعلو على الإنتماء الوطني الموحّد لها.
مرّت أشهر من دون أن تستطيع الدول المحرّكة النجاح في خطة تفتيت سوريا، رغم إستخدام قدرات إعلامية هائلة، ومالية ضخمة.
كان الإغراء على أشدّه لكسر السوريين في السياسة والدبلوماسية، ثم العسكر، فكرّت سبحة الإنشقاقات، لكن لم تستطع تلك العملية من قلب المعادلة السورية. لم تتراجع دمشق، ولم يضعف الرئيس السوري بشار الأسد، ولم يتنازل عن ثوابت بلاده، لا تجاه "النصائح" التركية لإشراك "الإخوان المسلمين" في السلطة، ولا بتلبية مطالب خليجية للتخلي عن حلفه مع "محور المقاومة"، ولا بالإنصياع للأوامر الغربية لقبول إستسلامه أمام سياسات الغرب في كل عناوين السياسة والإقتصاد وقبول الصلح ضمنياً مع إسرائيل.
تدريجياً، حلّ السلاح بديلاً من شعارات "السلمية"، ودخلت سوريا دورة الدم، وبدأت تخسر قدراتها ويتراجع إقتصادها. بعد مرور سنوات من القتال، كادت فيها سوريا أن تُبتلع من قبل متطرفين أتوا من كل إتجاهات الأرض بإسم "تنظيم داعش" و"جبهة النصرة" ومتفرعاتهم، لكن السوريين صمدوا بقوة دماء شهدائهم وضحاياهم وجرحاهم، وبفعل دعم عسكري مفتوح من حلفائهم. عملياً إنتصرت سوريا ميدانياً، وهي الآن بصدد تنظيم حملة عسكريّة جديدة يُفترض أن تُطيح بقوى مسلّحة تحتلّ إدلب شمالاً، يُساعدها في تسريع عمليّة الحسم إضطرار تركيا سحب عشرات الاف المسلحين من شمال سوريا الى ليبيا.
لكن الولايات المتحدة الأميركية لم تستسلم للواقع السوري الذي رسّخه انتصار دمشق في حلفها مع طهران وموسكو. بدّلت المعركة من سياسية-عسكرية الى إقتصادية-مالية. هذا ما تفعله واشنطن أيضاً في حروبها على الإيرانيين والروس والصينيين والفنزوليين وغيرهم. تريد واشنطن أن تشتّت الشمل السوري، وتفكّك البيئة السوريّة الحاضنة للرئيس بشار الأسد قبل حلول موعد إنتخابات الرئاسة في العام المقبل. هي تريد أن تضرب رمز سوريا ووحدتها وقوّتها ومانع تفتيتها وهو شخص الأسد. من هنا تزداد الضغوطات عليه، لكنه لا يتراجع بصلابة قلّ نظيرها. لذا، يشتد الحصار على الجمهورية العربية السورية، وتزداد العقوبات التي وصلت الى "قانون قيصر" لإنهاك الإقتصاد السوري، وهي الأسباب التي نهشت بالليرة السورية وأضعفتها مئات المرات. مسألة تراجع قيمة الليرة لا علاقة لها لا بخطة قيادة، ولا بعمل حكومة، ولا بنوعية إدارات. لا يستطيع ايّ مسؤول سياسي حكومي، او مالي، او إداري أن يمنع تهاوي الليرة في ظل الضغوطات التي تنهال عليها. سيكون رمي المسؤولية عند المسؤولين المُشار اليهم هو تسخيف وتقليل من أهمية الحملة الغربية على سوريا. هذا الأمر حصل في روسيا، وايران ولا يزال يحصل مع دول عدة صوّبت عليها واشنطن لإبتزازها وفرض إستسلامها. لكن الخطير هو التفكك المجتمعي السوري المُفترض اميركياً، قد يحصل في حال إنساق السوريون مع الهجوم الإقتصادي عليهم، عبر تسويق الاستسلام واللهاث خلف عملة الدولار، كالذي يستبدل ملايين الليرات التي يقبضها الآن، ثمن محصول القمح والحبوب بالدولار الأميركي. هو سيجفّف العملة الصعبة من السوق ويرفع سعرها مقابل ضرب عملته الوطنية.
المسألة لا تحتاج لخبراء ماليين، اذا كان الحصار والعقوبات والتضييق والمنع قائمين، فكيف يمكن لسوريا ان تحصل على الدولار؟ سيؤدي ذلك الى رفع الطلب عليه وبالتالي رفع سعره.
هل يعلم السوريون أن إثارة موضوع المعابر غير الشرعيّة بين لبنان وسوريا هدفه ايضاً مزيداً من الحصار لإقفال البوّابة اللبنانيّة، بعد تحكّم الأميركيين بباقي البوّابات الحدوديّة مع تركيا والعراق والأردن؟.
هل يعلم السوريون ان ارصدتهم في البنوك اللبنانيّة حوالي ٢٠ مليار دولار هي ايداعات لهم في المصارف اللبنانيّة محتجزة مثل ايداعات المواطنين اللبنانيين، هي احدى أسباب تدهور سعر الليرة؟.
هل يعلم السوريون أن الضغوطات نجحت على عواصم الخليج لمنعهم من إعادة مسار علاقتهم بدمشق؟ وان الضغوطات تنهال الآن على لبنان لمنعه من التواصل مع الشام؟.
هل يعلم السوريون أن آخر مرحلة من مراحل الحرب عليهم هي إقتصادية-مالية، سبق ان عاشتها شعوب قبلهم مرات ولا زالت عواصم تواجه نفس الحرب؟.
هل يعلم السوريون أن العالم بأسره يمر بمرحلة إقتصادية منهكة، وان الفقر يزداد، وأن دولاً من بينها الولايات المتحدة تعاني من أزمات إقتصادية-مالية حالياً؟.
هل يعلم السوريون أنّ أزمات لبنان المصرفيّة أصابت عملتهم الوطنية فتراجعت قيمتها؟.
صحيح ان العملة السورية واجهت في أول سنوات الحرب ضغوطات، لكن حجم ما تواجهه الآن أشد بعشرات المرات: اولا، كان مخزون الشعب والدولة المالي موجوداً بوفرة نسبية. ثانياً، كان وصول عملة الدولار الى المسلّحين يساهم في تخفيف الضغط المالي وعدم تجميع العملة الصعبة التي كانت متوافرة بكثرة. ثالثاً، كانت الخيارات السياسية والعسكرية والدبلوماسية هي السائدة التي تطلّبت من الدول ضخ أموال كبيرة لتحقيق انشقاقات او تأمين كسر الدولة السوريّة بمبالغ ماليّة وصلت الى المجموعات والمناطق المنشقة ولكنها دخلت الى كل سوق سوريا ضمن حركة الإقتصاد الطبيعية.
حالياً، لم يعد كل ذلك موجوداً، بل إن كل الخطة لضرب بنية سوريا تقوم على أساس محاكاة قلق كل مواطن، من خلال عنوان إقتصادي-معيشي يكون مدخله ضرب الليرة السورية. سيعتقد سوريون أن الدولة مقصّرة، وأنّ عودة التعافي مسألة سهلة. لكن القصّة أكثر تعقيدا وخطورة. يكفي ان يراقبوا ماذا يحصل حولهم وبشأنهم وفي العالم.
لا سبيل للمواجهة الا عبر التماسك الوطني، والإلتفاف حول العناوين السيادية بدءاً من رمزية الأسد، وعدم الإنسياق خلف حملات التواصل الإجتماعي، لا بالتصويب على المؤسسات ولا المصرف المركزي، والذهاب الى ترسيخ اسس الإقتصاد المنتج بشكل كامل.
علّمت التجارب الشعوب أنّ الإعتماد على الذات هو الخلاص. كانت حلب هي النموذج قبل ان يسلبها المسلحون قدراتها الصناعيّة، وهي تحاول الآن أن تحلّق من جديد. وكان تجّار دمشق هم القدوة في كيفية التغلب على كل المحن. وكان كل الشعب السوري هو المثال في كيفية الإنتصار بعد المعاناة. فهل يكرر جيل اليوم تجارب مجد أسلافه؟ أم يقع ضحيّة لعبة الأمم بتسلّل الهزيمة إلى داخله، والتي يُراد منها أن تُنتج انتفاضات وحراكات وتظاهرات واعمال شغب؟.
ان سوريا أمام نوع اصعب وأكثر دقّة وخطورة من المواجهة، ستستمرّ حتى موعد الانتخابات الرئاسيّة لكسر الرمز الوطني السوري الذي يمنع التفتيت والتقسيم. الهدف الخارجي لا يزال قائما بضرب النسيج السوري، لكنّ أدوات المعركة تغيّرت. إما الصمود واما الهزيمة. سيختار السوريون.