يَستغرب جزء من الرأي العام، كيف أنّ مُجرّد الحديث عن ضريبة طفيفة على خدمات الإتصالات الرديفة للهواتف التقليديّة، قد أثار خلال الخريف الماضي مَوجة من الغضب الشعبي العارم، والتي لم تهدأ سوى بإستقالة حُكومة رئيس "تيّار المُستقبل" سعد الحريري بعد فترة وجيزة، بينما اليوم ومع تجاوز سعر صرف الدولار الأميركي عتبة الخمسة آلاف ليرة لبنانيّة، وما يُرافق ذلك من غلاء فاحش، تبدو الإعتراضات الشعبيّة مَحدودة وخجولة، وتمضي الحكومة برئاسة الدُكتور حسّان دياب في طريقها، وكأنّ شيئًا لم يكن! فما سرّ صُمود الحُكومة الحاليّة-إذا جاز التعبير؟.
بداية، لا بُدّ من التذكير أنّ بقاء الحُكومات وسُقوطها غير مُرتبط بشكل مُباشر بالضغط الشعبي-كما يظنّ البعض، بل بعوامل سياسيّة وبتوازنات محليّة وإقليميّة، وبتدخّلات دبلوماسيّة، إلخ. وبالتالي، إنّ إستقالة رئيس الحكومة السابق سعد الحريري جاءت بعد أن وصل مجلس الوزراء السابق إلى طريق مَسدود على مُستوى إدارة الدولة، بسبب خلافات كبيرة بين أركان ما إصطلح على تسميته "التسوية الرئاسيّة"، الأمر الذي منع عجلة الحُكم من الدَوران. وجاءت الإنتفاضة الشعبيّة لتُشكّل الشعرة التي قصمت ظهر البعير، ولتدفع الحريري إلى الإنتقال من موقع رئاسة السُلطة التنفيذيّة، من دون قُدرة ميدانيّة فعليّة على الحُكم، إلى موقع مُعارض ينتظر الفرصة المُناسبة لإستعادة ما فقده!.
بالإنتقال إلى حُكومة الدُكتور دياب، فهي جاءت إلى الحُكم بأغلبية سياسيّة ونيابيّة غير كبيرة، لكنّها إستفادت في البداية من رغبة الناس بالتغيير وبالتخلّص من كل رواسب الحُكومات الماضية. لكن اليوم، ومع إنقضاء فترة المئة يوم، بدأت هذه الحُكومة تفقد وهجهها شيئًا فشيئًا، لأنّ الناس تنتظر نتائج مَلموسة، وليس وُعودًا برّاقة. والناس لا يهمّها توصيف الحالة المأساويّة التي يعيشها لبنان حاليًا، ولا تشريح المسؤوليّات عمّا آلت إليه الأمور مع مُرور الوقت، بل تتطلّع إلى تحقيق إنجازات حُكوميّة، تنعكس إيجابًا على أوضاعها المعيشيّة والحياتيّة، وتُترجم طمأنةً على سلامة ودائعها في المصارف، وتمنحها الأمل بمُستقبل مُشرق. لكنّ كلّ ما سبق لم يحصل، بل زادت الأمور سوءًا على مُختلف المُستويات، خاصة وأنّ الحظّ العاثر رافق الحُكومة الجديدة منذ لحظة ولادتها، حيث ساهم إنتشار وباء كورونا في العالم في زيادة الضُغوط الإقتصاديّة والماليّة على لبنان، ليكتمل هذا الحظ العاثر أخيرًا مع تفاقم العُقوبات الأميركيّة على قوى إقليميّة عدّة، من دون أن يَسلم لبنان من إرتدادات ذلك السلبيّة.
ولمن يسأل كيف يُمكن لحُكومة أن تبقى في موقعها، بعد أن بلغ الإنهيار المَعيشي ذروته، وبعد أن تجاوز سعر صرف الدولار الأميركي عتبة الخمسة آلاف ليرة في السوق الموازي، فإنّ الإجابة هي بكل بساطة: غياب البديل! نعم، إنّ إستقالة أو سُقوط أو إسقاط-لا فرق، الحُكومة الحاليّة، يَعني عمليًا الدُخول مُجدّدًا في مرحلة من الفراغ على مُستوى السُلطة التنفيذيّة، لأن لا توافق على حُكومة بديلة. وليس بسرّ أنّه خلال الأسابيع القليلة الماضية، جرى التداول في خيار إستبدال الحُكومة، ثمّ جرى صرف النظر سريعًا عن الموضوع، بسبب غياب الظُروف الداخليّة والخارجيّة المُؤاتية. وبالتالي، الحُكومة الحالية ستبقى في المدى المَنظور، بغضّ النظر عن الإنجازات والإيجابيّات التي قد تُحقّقها، وعن الهفوات والسقطات التي قد ترتكبها-على غرار تقاسم التعيينات مثلاً، وذلك لأنّ لا سيناريو جاهزًا لأي تغيير مُحتمل.
إشارة إلى أنّ "حزب الله" يضع "فيتو" حاسمًا، يحول دون تشكيل حُكومة مُستقلّين بشكل فعلي، ويحرص على أن يكون الوزراء مُعيّنين من قبل قوى حزبيّة وسياسيّة، بهدف عدم ترك السُلطة التنفيذيّة بشكل كامل، ويُؤيّده في ذلك "التيّار الوطني الحُرّ" و"حركة أمل". وهذا الأمر يُبقي خيارات التغيير مَحدودة، ومن بينها خيار حكومة الوحدة الوطنيّة، وهو ما يرفضه الرأي العام كليًا في هذه المرحلة، إنطلاقًا من المبدأ القائل إنّ من جرّب المُجرّب يكون عقله مُخرّبًا! لكن في الواقع إنّ المانع الفعلي للعودة إلى خيار حُكومات "لمّ الشمل"، ليس رأي الناس، بل غياب التوافق على هذا الخيار بين مُختلف القوى المَعنيّة. ومن الواضح أنّ قوى "8 آذار" السابقة غير مُستعجلة لإعادة مدّ اليدّ لقوى "14 آذار السابقة"، وهذه الأخيرة غير مُستعجلة بدورها للعودة إلى الحُكم في هذا الزمن الصعب، وتُفضّل أن يكون الإنهيار-إن حصل، على يد سواها، على أن تعود إلى الحُكم لاحقًا بدور المُنقذ، وعندما تكون الأمور الإقليميّة والدَوليّة قد منحت الضوء الأخضر لهذا الخيار.
وفي الخلاصة، الحكومة الحاليّة باقية في المدى المَنظور، وما لم تنضج صفقة التغيير، أيّ ما لم يتمّ التوافق على تسوية محليّة جديدة وواضحة المعالم، بمُباركة أو أقلّه بتسهيل إقليميّ-دَوليّ، لا تغيير حُكوميَّا.