خيار الحكومة اللبنانية للإنقاذ المالي إنما يكمن بمسارعتها إلى وضع خطة اقتصادية تقوم على التوجه شرقاً.. وليس بالاستمرار في انتظار الحصول على قروض من صندوق النقد الدولي، التي لن تأتي، وإذا أتت فإنها ستكون مرتبطة بشروطٍ لا يستطيع لبنان تحمّلها لأنها ستعني زيادة منسوب الأزمة الاجتماعية، في حين أنّ الشروط السياسية لن يكون بمقدور الحكومة الموافقة عليها لأنها شروط أميركية تستهدف فرض الأهداف الصهيونية إنْ لناحية السعي لفرض ترسيم للحدود البرية والبحرية يحقق الأطماع الصهيونية في ثروات لبنان النفطية والغازية والمائية، أو لناحية محاصرة المقاومة..
وهذا يعني في الحالتين عقم المراهنة على معالجة الأزمة المالية عبر الحصول على قروض من صندوق النقد أو سيدر… وما يدلل على أنّ الأمور تسير في هذا الاتجاه، التصعيد الحاصل في حرب الحصار الأميركية على كلّ من لبنان وسورية، والتي كشف عن أهدافها المبعوث الأميركي إلى سورية جيمس جيفري عندما قال: «إنّ انهيار سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار سببه الإجراءات التي اتخذتها الإدارة الأميركية»..
وزعم أنّ سورية لم يعد باستطاعتها «تبيض الأموال في البنوك اللبنانية التي تعاني من أزمة».. وهذا إنْ دلّ على شيء إنما يدلّ على اعتراف أميركي رسمي بالمسؤولية عن الحصار المالي الذي يستهدف لبنان وسورية لإضعاف سعر الليرة السورية واللبنانية، وتسعير المضاربة للتسبّب بخفض القدرة الشرائية للمواطنين في البلدين، وخلق أزمة اجتماعية ومعيشية توفر الظروف لزيادة الضغط على الحكومتين السورية واللبنانية لدفعهما إلى الرضوخ للائحة الطلبات الأميركية كشرط لإنهاء الحصار وتسهيل الحلول السياسية في سورية وإعادة إعمار ما دمّرته الحرب الإرهابية، وكذلك تسهيل الحلول الاقتصادية والمالية في لبنان…
إذاً نحن أمام تصعيد في الحرب الاقتصادية والمالية الأميركية بهدف تحقيق ذات الأهداف التي سعت إليها واشنطن من وراء حروبها العسكرية المباشرة، وحروبها الإرهابية بالوكالة وفشلت فيها… وفي هذه الحرب الاقتصادية لا مكان للحلول الوسط، إما تقبل بالشروط الأميركية، أو ترفضها وتعمل على إحباط أهدافها بخطة معاكسة… ولهذا على الحكومة اللبنانية حسم أمرها والعمل إلى المسارعة لاعتماد خطة اقتصادية مالية تقوم على التوجه شرقاً بدلاً من البقاء في مستنقع السياسات الراهنة التي تتبع السياسات الاقتصادية في الغرب وتراهن عليه في حلّ أزمات لبنان..
ففي مقابل الغرب الذي يربط إعطاء القروض المشروطة ويمتنع عن تقديم أيّ مساعدات حقيقية للبنان لحلّ أزماته المزمنة على غير صعيد.. يمكن للبنان في حال توجه شرقاً أن يحصل على كلّ ما يحتاج إليه للنهوض باقتصاده وقطاعاته الخدماتية ومعالجة أزمته المالية من خلال..
أولاً، الحصول من الصين على قروض مالية سريعة ميسّرة وطويلة الأجل وبلا شروط.. وهو ما يتناسب مع مصلحة لبنان الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في آن.. ومعروف للعالم أجمع أنّ الصين هي الدولة التي تملك القدرات المالية الأكبر في العالم، إلى جانب اقتصاد أثبت أنه الأقوى عالمياً في زمن الحرب العالمية في مواجهة جائحة كورونا..
ثانياً، الحصول من الصين وإيران وروسيا على مساعدات عملية لحلّ مشكلات الكهرباء والنفايات ومصافي النفط والمواصلات والمرافئ والاستثمار في مجال التنقيب عن النفط والغاز.. فهذه الدول تملك التقنيات وقد أبدت الاستعداد غير مرة، وهي لا تزال تعلن استعدادها لمدّ يد المساعدة للبنان، ولها مصلحة اقتصادية وسياسية في ذلك أيضاً، لكنها مصلحة تقوم على تبادل المنافع وتحقيق المصالح المشتركة..
أ – حاجة هذه الدول إلى كسر الحصار الاقتصادي الذي تفرضه الولايات المتحدة والذي يطال هذه الدول أيضاً، وتكريس التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري
ب - حاجة الصين إلى لبنان في سياق تنفيذ مشروعها «الطريق والحزام»، فلبنان يُعتبر محطة مهمة تاريخياً على طريق الحرير، برياً وبحرياً فهو يشكل صلة وصل هامة بين الصين والدول العربية، وبين الصين والدول الأوروبية وغيرها من دول العالم… ولهذا فإنّ لبنان بإمكانه الاستفادة ايما استفادة من القروض التي تقدّمها الصين للدول التي يمرّ عبرها «الطريق والحزام «، وكذلك يستفيد من إسهام الصين في إنشاء وتطوير البنى التحتية من سكك حديد وشبكة طرقات حديثة وتطوير مرافئه البحرية والجوية ليكون قادراً على القيام بالدور المنوط به كمحطة مهمة على طريق الحرير الحيوي…
ومعروف أنّ لبنان بأمسّ الحاجة لإنشاء وتطوير بناه التحتية للنهوض باقتصاده وتنشيط حركته السياحية التي تلعب فيها الخدمات الحديثة دوراً مهماً في استقطاب السياح.
ج ـ الحصول على أسواق هامة وحيوية لتصدير الإنتاج اللبناني الزراعي والصناعي، فلبنان من خلال سورية يستطيع أن يصرّف إنتاجه في السوق العراقية الأكثر حيوية بالنسبة له، لأنها تستوعب كلّ ما ينتجه لبنان، وهذا يسهم في النهوض بالاقتصاد والتوسّع في الإنتاج وحلّ مشكلة البطالة من جهة، وم جهة ثانية زيادة التصدير إلى الدول العربية الأخرى وإيران والصين وروسيا إلخ… الأمر الذي يقود بالتأكيد إلى إعادة التوازن للميزان التجاري وردم الهوّة الحاصلة بين الواردات والصادرات والتي أسهمت في التسبّب في أزمة الدولار..
كما يؤدي كذلك إلى معالجة العجز في الموازنة من خلال زيادة العائدات الجمركية والضريبية والحدّ من التهرّب الضريبي، أو العجز عن دفع الضرائب بسبب الأزمة التي تعاني منها حالياً مختلف القطاعات والشركات الخاصة…
د ـ الحصول على احتياجات لبنان من المشتقات النفطية والغاز والفيول بأسعار تفاضلية، لا سيما إعادة استيراد النفط من العراق بوساطة أنبوب النفط الواصل إلى مصفاة طرابلس عبر سورية.. وتحقيق ذلك أمر حيوي بالنسبة للدولة اللبنانية وخصوصاً في هذه المرحلة التي يعاني فيها لبنان من أزمة سيولة بالدولار..
فعودة الدولة إلى استيراد كامل احتياجات لبنان من النفط وتشغيل مصفاة طرابلس سيدرّ على الخزينة بضعة مليارات من الدولارات… إذا ما أضيفت إلى ما سيحققه لبنان من عائدات عبر تصدير إنتاجه، فإنها تضع نهاية لعجز الخزينة، والحاجة إلى الاستمرار بالاستدانة…
انطلاقا مما تقدّم، يمكن القول إنّ مصلحة لبنان إنما تكمن بعدم إضاعة الوقت بالرهان على مفاوضات صندوق النقد الدولي، والعمل سريعاً لوضع خطة اقتصادية للنهوض بالاقتصاد من خلال التوجه شرقاً عبر البوابة السورية… لا سيما أنّ لبنان لم يعد هناك ما يخاف عليه من خطر تعرّضه لحصار أميركي، فهذا الحصار أصبح واقعاً والانهيار الاقتصادي والمالي حصل، وبالتالي فإنّ لبنان سيربح من خلال التوجه شرقاً، وليس العكس…
أما المقاومة فهي قادرة أن تتكفل بحماية لبنان وخياراته الاقتصادية المستقلة حال أقدم عليها.. في حين أنّ الصين وروسيا وإيران يملكون القدرات على كسر الحصار الأميركي، كما يفعلون مع سورية وفنزويلا…