في مُعتقدنا، الله هو الله بقدر ما يموت، والألوهةُ هي الألوهة بقدر ما تُحيي. وفي مُعتقدنا أيضاً، ولا حاجةً لنا إلى غير التجسّد وموت وقيامة الربّ يسوع حُجّةً، لا يحتاج الله إلى مَن يُدافع عنه ولا إلى مَن يُقاتل في سبيله، ولا إلى مَن يقود إليه بقوة العنف، ولا إلى مَن يُنظّف ويُلمّع صورته من أمراض الفكر وبذاءة اللّسان، بل إلى مَن يَهيمُ به حُبّاً، ويغرفُ منه مودّة وحناناً ورِفقاً، يلمس بهم الناس، كلّ الناس، كائناً مَن كان هؤلاء النّاس.
بينما كان يسوع ذاهباً إلى أورشليم، مرَّ في السّامرة، "فَلَمْ يَقْبَلْهُ السَّامِرِيُّون، لأَنَّهُ كَانَ مُتَوَجِّهًا إِلَى أُورَشَليم"(لو9: 53)، فصديق عدوّهم هو عدوّهم. "وَلَمَّا رأَى ذلِك تِلمِيذَاهُ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا، قَالا: "يا رَبّ، هَلْ تُرِيدُ أَنْ نَأْمُرَ بِأَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ وَتُفْنِيَهُم"؟(لو9: 53-54). وفي بستان الزّيتون لم يستطع بطرس أن يتقبَّل مشهد الجنود المُدجّجين بالإسلحة وقد أتوا ليقبضوا على يسوع ويسوقوه إلى الموت(يو18: 10)، فاستلَّ سَيفه وقطع به أذن خادم عظيم الأحبار الذي حَضَر مع فرقة الجنود والحَرَس. ظنَّ يعقوب ويوحنّا أنَّ كلَّ مَن يُعادي الربّ يجب أن يهلِك ويموت، ولهذا قالا ما قالاه " تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ وَتُفْنِيَهُم". هو منطقٌ لا زال يتمنطق به الكمّ الكبير من الناس؛ فمَن لا يُشبهنا ولا يعتقد اعتقادنا هو عدوّنا، وعدوّنا لا يستحقّ الحياة! وظنَّ بطرس أنّه بسلاحه، قادرٌ على أن يُدافع عن يسوع في وجه أعدائه الذين أتوا ليُنكّلوا به، وأنّ للسّلاح الكلمة الفصل، فقام بما قام به، تماهياً مع روح العالم.
خطّأ يسوع تلاميذه فأنّب الأولَين، وتابع سيره إلى مكانٍ آخر عارِضاً عن الإساءة(لو9: 55-56)؛ فالشرّ لا يُبادَل بالشّر لكي لا تتوسّع دائرة الشرّ، بل بالخير الذي يوقف توسّع الشرّ. وزجر بطرس رافضاً رفضاً قاطعاً أن يستعمل سيفه، فالسّيف يجرّ السّيف والحرب الحرب(متى26: 52)، وشفى الخادم ليُعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل العنف، فلا يُقابَل العنف بالعنف. الكلام السّيء الذي تفوّه به كلٌّ من يعقوب ويوحنّا يقطع أوصال الحوار والتّلاقي ويجرّ إلى الحرب، ولهذا لا يجب أن يكون له مكاناً في ثقافة التلميذ الحقيقي. واستعمال السّيف الذي قام به بطرس، يجرّ إلى المعاملة بالمثل وهذا ما رفضه يسوع بشكلٍ جذري.
مَن يؤمن بالله حقيقةً، لا يستطيع أن يُجاري الشر ولا أن يُساوم مع الشّر ولا أن يسعى إليه بقصد الدفاع عن الله. العزّة الإلهية لا تُهان ولا تتأثّر سلباً عندما تُسبّ، ولا عندما يُجدَّف على اسمها ولا عندما تُتناوَل بأبشع العبارات، بل السبّابون والمُجدِّفون والشتّامون! ولا يُوَطّى من قيمة مُعتقد أو دينٍ ما عندما يُحَقَّران، بل المُحَقِّرون! ولا تُهان جماعةٌ عندما تُشتَم، بل الشتّامون! وعلى كلّ حال ماذا يحدث لنا إن سبّنا الآخرون وما سبّيناهم، وإن شتمونا وما شتمناهم؟ وإن حقّرونا وما حقّرناهم؟ وإن عيّرونا وما عيرّناهم؟ وإن أساؤوا إلى ما نعتقد به وما أسأنا إلى ما يعتقدون به؟ ما الذي نخسره؟ ماذا الذي تخسره العقيدة؟ ما الذي تخسره الأديان؟ وما الذي يخسره الله؟ دعوني أقول ما الذي نخسره، نخسر كوننا بشر، وبخلاف ذلك يخسر الشرّ وتربح الإنسانيّة ويتمجدّ الله ليس إلاّ؛ فالله لا يُريدُ مَن يُقاتل في سبيلِه بل مَن يُجاهد في كامل المحبّة في سبيل عالم أفضل يليق بالإنسان. ولهذا، توقّفوا عن الخشية على الله وليطمئنَّ الجميع عليه فلَن يُصيبه أي مكروه، بل سيُصيبنا نحن إن بقينا على عنادنا، ورغبتنا في أن نُلبِسُ الله لِباس أفكارنا الوضيعة التي تتناقض مع طبيعة المحبّة.
للأسف الشديد، بمقدور أيٍّ كان أن يقول أي شيء كان، سواء كان هذا القول مُستقيماً أو منحرِفاً، وهذا ما ستبقى عليه الحال لا سيّما في عالم وسائل التواصل الإجتماعي الحديث، الذي سمح للحكيم والأرعن أن يُسمعا صوتهما على السّواء، ولكن الحكمة تكمن في عدم السّماح لأي قَولٍ بأن يُرغمنا على ما لا نُريده... والسّلام.