منذ تكليفه تشكيل الحكومة بعيد انتفاضة اللبنانيين في السابع عشر من تشرين الأول، تحوّل رئيس الحكومة حسّان دياب إلى "هدفٍ" للمتظاهرين، وانضمّ اسمه إلى عشرات "رموز" الطبقة السياسيّة الذين يطالبون بإسقاطهم في الشارع، تحت شعار "كلّن يعني كلّن".
يومها، لم يتردّد البعض في إضافة اسم دياب إلى الشعار، ليصبح "كلّن يعني كلّن... وحسّان دياب واحد منّن"، شعارٌ بدا "جدلياً" حينها بين المتظاهرين أنفسهم، الذين خرج منهم من "يدافع" عن الرجل، الذي لم يجد رافضوه أكثر من "كتيّب إنجازات" ليدينوه بسببه.
وفي النتيجة، انخفضت أسهم الشعار المستجدّ سريعاً، ليُمنَح دياب "فرصة" تفاوتت مدّتها، لعلّه يثبت خلالها "حسن النوايا"، ويقدّم "النموذج" المختلف الذي وعد به، حين قال إنّه سيمثّل من قلب السلطة، الحراك الشعبيّ الذي اعتبر أنّه يمثّله ويعبّر عنه في مكانٍ ما.
اليوم، ومع تجدّد "الثورة" بفعل تفاقم الأزمات المعيشيّة التي تواجه اللبنانيين، وتمسّ لقمة عيشهم قبل أيّ شيءٍ آخر، يعود الشعار ليصدح من جديد، مع تسجيل مفارقة انخفاض مستويات الدفاع عن دياب، حتى بين عرّابيه، ما يطرح السؤال: هل أصبح فعلاً "واحد منّن" (واحداً منهم)؟!
نموذج مختلف؟!
حين تمّ تكليف دياب رئاسة الحكومة، انقسم المزاج الشعبيّ العام في العلن، بين من يدعو إلى منحه "فرصة" ليتمّ الحكم عليه بعدها، بناءً على الأداء والمجهود، ومن يرفض منطق هذه "الفرصة"، باعتبار أنّ دياب وصل بدعم فريقٍ سياسيّ محدَّد، وبالتالي فهو سيبقى "رهينة" هذا الفريق، بمُعزَل عن "نواياه" الحقيقيّة.
لكن، على رغم هذا الانقسام الواضح في مقاربة كيفية التعامل مع الرجل، لم يكن خافياً على أحد أنّ "أملاً" تولّد لدى مختلف اللبنانيين، في أن ينجح دياب بفعل شيءٍ ما ممّا يَعِد به، وفي أنّه سيتمكّن من بدء ورشة "الإصلاح والتغيير"، انطلاقاً من "مبدأ" أنّ ما بعد السابع عشر من تشرين ليس كما بعده، أو بالحدّ الأدنى، من باب "الخشية" أن تواجه حكومته السيناريو نفسه الذي اصطدمت به سابقتها، فتسقط تحت ضغط الشارع.
وقد يكون من الإنصاف القول إنّ الرجل، على امتداد أشهر في الحكم، حاول كثيراً أن يُظهِر هذه الصورة "المختلفة" في الأداء في الكثير من المحطات. برز ذلك مثلاً في طريقته في "مخاطبة" اللبنانيين في الأوقات المفصليّة والحسّاسة، أو في "إيحائه" بأنّه لا يخضع للضغوط، ويتحمّل مسؤوليّة قراراته، كما حصل أخيراً مثلاً حين أصرّ على عدم إعادة تعيين محمد بعاصيري ضمن نواب حاكم مصرف لبنان، "متحدياً" كلّ ما أثير عن ضغوطٍ أميركيّة في هذا الصدد.
برز هذا الاتجاه أيضاً حينما طُرِحت "التعيينات" للمرّة الأولى على الطاولة الحكوميّة في نيسان الماضي، فاصطدمت بالمدّ والجزر بين المكوّنات الحكوميّة، التي خرج منها من يلوّح بالانسحاب والاعتكاف، أو حتى الاستقالة احتجاجاً على نيل غيره "حصّة" أكبر منه، في تكريسٍ فاقعٍ لمنطق "قالب الحلوى" الذي يريد السياسيون تقاسمه. يومها، حوّل دياب نفسه إلى "بطل قومي" حين ضرب على الطاولة، ساحباً ملفّ التعيينات، لأنّها، بالطريقة التي تحصل، "لا تشبهنا كحكومة تكنوقراط"، بل تخالف "قناعاته ومنطلقاته وتوجّهاته".
خطايا "قاتلة"؟!
على امتداد أشهر، سعى دياب ليكرّس النظرة إليه وكأنّه رئيس حكومة "تكنوقراط"، على رغم أنّ وجه الحكومة "السياسي" بات أكثر من مكشوف، وخير دليلٍ عليه "تهديد" العديد من الأحزاب السياسيّة بالانسحاب منها عند كلّ مفصل، كما فعل حتى الآن، على سبيل المثال لا الحصر، كلّ من رئيس مجلس النواب نبيه بري عند طرح ملفّ عودة المغتربين، قبل أن يحصل على مُراده، ورئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية عند طرح التعيينات الماليّة للمرّة الأولى، قبل أن تُسحَب من التداول، ورئيس الحزب "الديمقراطي اللبناني" طلال أرسلان، على خلفية تعييناتٍ لم تُبتّ بعد، وحتى رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل، على خلفية التعيينات أيضاً، والتي أتت في النهاية تماماً كما أراد، ما دفعه لتوصيفها عبر مصادره بـ"الإنجاز والانتصار".
قد يكون كلّ ما سبق كافياً لإدانة دياب، الذي نجحت مكوّنات حكومته السياسية في جذبه نحو ساحتها، بدل أن يفعل العكس، بدليل أنّ قرارات حكومته باتت تُتّخَذ تحت الضغط والتهديد، ولو تطلّب الأمر أن يحوّل نفسه من "ممثّلٍ" للحراك الشعبيّ كما قال عند تكليفه، إلى "منفّذٍ" لرغبات وإملاءات من سمّوه، على اعتبار أنّ "استرضاءهم" حتميّ لبقاء الحكومة، خصوصاً أنّ تنفيذ أيّ فريق فيها لتهديده بالانسحاب، سيترك تداعياتٍ سلبيّة جداً، قد ترقى لمستوى "الإطاحة" بها سريعاً، بمُعزَلٍ عن الحجم الوزاريّ لهذا المكوّن، الذي قد يكون محدوداً كحال "المردة" مثلاً، لكن كثير الفعاليّة، باعتباره ضامن "التنوّع" على المستوى المسيحيّ.
وإذا كان بالإمكان تصنيف "الخوف على الكرسي" خطيئة ارتكبها دياب، فإنّ ثمّة من يتحدّث عن "خطايا" أخرى، قد تكون "قاتلة" ارتكبها أيضاًوجعلته في الممارسة، "نسخة طبق الأصل" عن غيره ممّن تعاقبوا على الحكم، ولو "تميّز" في صياغة النصوص الإنشائية التي تُظهِره مختلفاً. ومن هذه "الخطايا"، يأتي إصراره مثلاً على تعيين مستشارته بترا خوري في أيّ منصب، وكيفما كان، وهو ما لم ينجح فيه حتى الآن، بعدما حاول لعب "ورقتها" في محافظة بيروت، ومن ثمّ في محافظة كسروان-جبيل المستحدَثة، وقبلهما في الحكومة نفسها، معطوفاً كذلك على إصراره على تعيين عقيلته أيضاً في أكثر من لجنة، واضطراره في كلّ مرّة إلى "الدفاع" عن نفسه إزاء "الحملات" التي يتعرّض لها.
لكن تبقى كلّ هذه "الخطايا" في وادٍ، وما كرّسته جلسة التعيينات الأخيرة، التي لم يتوانَ دياب عن وصفها بـ"الانتصار" في وادٍ آخر، بل إنّ هذه الجلسة تشكّل برأي كثيرين، "الخطيئة القاتلة" في سجلّ الرجل، خصوصاً أنّه "انقلب" فيها على نفسه أولاً وأخيراً، فهو لم "يستسلم" لمشيئة القوى السياسية فحسب، بل فعل ذلك على "المفضوح"، باعتبار أنّ التعيينات جاءت نسخة طبق الأصل، وبالأسماء نفسها تقريباً، عن تلك التي "انتفض" ضدّها قبل شهرين، ومن دون تطبيق أيّ "آليّة" واضحة وشفّافة، على رغم صدور قانون بشأنها عن مجلس النواب أخيراً، من دون أن ننسى "مفارقة" توقيت الجلسة التي تغيّر موعدها الأسبوعيّ الثابت "كرمى لعيون" أحد المعيَّنين، لمناسبة عيد ميلاده الذي كاد "يقصيه" من المركز لو تأخّرت الجلسة لأربع وعشرين ساعة.
من يدفع الثمن؟!
كثيرةٌ هي التفسيرات التي يمكن أن تُعطى لجولة الاحتجاجات الشعبيّة الجديدة، بين من يقول إنّ الارتفاع الجنونيّ والهائل لسعر الدولار مقارنةً بالليرة هو الذي دفع الناس للنزول "عفوياً"، وبين من يقول إنّ هناك من يحرّكها من قلب "السلطة"، للتصويب على دياب أو حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، أو كليهما معاً، خصوصاً بعدما حقّقت هذه القوى مبتغاها بالتعيينات التي أقرّت.
لكن، أياً كانت الحقيقة، فإنّ الثابت يبقى أنّ دياب يتحمّل مسؤوليةً كبرى في وصول الأمور إلى ما وصلت إليه، بعدما "اطمأنّ" ربما إلى أنّ "بدائل" حكومته غير موجودة، فسمح لنفسه بتغيير "الوجهة" من "الإطاحة" بالطبقة السياسية وأساليبها التقليدية القائمة على المحاصصة، ليصبح ببساطة جزءاً منها، ومنخرطاً فيها بالمُطلَق.
ومع دياب، تتحمّل قوى الأكثرية مسؤولية مضاعَفة أيضاً، هي التي يبدو أنّها لم تتعلّم "درس" السابع عشر من تشرين، فـ "استقوت" من جديد، وتصرّفت وكأنّ شيئاً لم يكن، وما التعيينات الأخيرة التي "هلّلت" لها، سوى "الدليل" على أنّها لا تستحقّ "الفرص"، لأنّها لا تكترث لـ"الانهيار"، وكلّ ما يهمّها توسيع "نفوذها" في الدولة، ونقطة على السطر...