قد يكون صعباً فهم عنوانٍ صادم من هذا النوع، بعدما انهمر الرصاص وتفشّت الحرائق والخرائب في الداون تاون بحثاً عن ساحة الشهداء أو ساحة البرج، وبانت الحروب تجدّد شبابها، لا باعتبار العنوان ردّة فعلٍ على ملامح الفتنة الطائفيّة التي هزّت لبنان واللبنانيين من جذورهم السبت الماضي (6/6/2020) ، بل لأنّ العنوان يوثّق أو يذكّرنا بلحظةٍ دموية خرّبت لبنان بين ال 1975 إلى 1991 وشغلت الإقليم والعالم، وكان للإعلام في لبنان وما يزال هو الكلمات المشتعلة المتشظيّة بل المؤشّر والمبشّر لما يدور في الأنفاس من ضغائن وحروب.
قصدت مصطلح المؤشّر هنا بمعنى الVecteur أو الإبرة تؤشّر بدقّة إلى الكوارث والفيالق والهزّات. لا أظنّ أنّ لبنانيّاً أو عربيّاً لا يتذكّر كيف كان الربط وثيقاً ورحميّاً في تاريخ لبنان ما قبل اتفاق الطائف بين أمرين : وقف الحملات الإعلامية ووقف إطلاق النار. وهنا أضع خطّاً تحت هذه المقولة التي يتساوى فيها الإعلام بالنيران مع أنّه "في البدء كانت الكلمة ، وكانت الكلمة هي الله". هذا الكلام اليوم أكثر من ضروري، لأننا في لبنان نعاني من تداخل السلطات الدينية والتقليدية والدستورية بمختلف أشكالها وممارساتها حيث الطائفيّة والزعامات التقليديّة الموروثة تجعل أجيال الشابات والشباب العاطلين عن العثور على ملامح المستقبل، واللبناني المنهك بالأزمات المتراكمة خصوصاً، لا ينتمي إلى مفاهيم مثل الوطن بقدر انتمائه إلى الدين والمذهب والمؤسّسات الدينيّة والأحزاب والزعامات.
يبدو أنّ الشاشات التي سبقت السياسات أو مدّت فضاءاتها سجّاداً أحمر للمناوشات الحزبيّة والكلامية والشتائم وولائم الدماء والفتك،تدلّ، ولو تغاضى السياسيون عنها وتلذّذوا بها بتبادل الفتك والتحقير وتقاذف المسؤوليات، على أنّ الجروح القديمة ما زالت مفتوحة على المخاطر المتعفّنة والمستوردة في ساحات لبنان بلا سياج.
وإذا كانت الحروب تخاض بالسلاح، كما تُخاض بالكلمات، منذ فجر التاريخ، فتقوى وتتجاوز في فتكها فعاليّة الأسلحة والصواريخ، فللتدليل على حجم التخوف الذي يجعل الكلمة مقصلة قادرة على القتل، وتهيئة المعارك وإذكائها عن طريق تشويه الصور، وحقن النفوس، والتحفيز على التدمير. وهذا أمر أساس في صلب الصراعات العسكرية والسياسيّة، ويدرَّس في الجامعات مادةً أساسيّة في الدعاية السياسية والحروب النفسيّة وعلم الإشاعة وتضليل الحقائق وتشويهها كباب في هزيمة الآخر وإعادة إحيائه. ولبنان مختبر عالي الصوت والصورة في الفضاء الدولي والإقليمي السياسي والدبلوماسي.
بدت الصورة في لبنان منذ ثورة 17 اكتوبر جميلة جاذبة ونموذجيّة ، لكنّها راحت تفقد بريقها فتظهر ملامح بشاعتها وآثارها التدميريّة المرتقبة. أوّلاً بسبب الكورونا الذي أجهضها، وثانيّاً بسبب أنّ التغيير الحكومي بهت بسرعةٍ غريبة، وثالثاً لأنّ الرياح العاصفة راحت تتجمّع مؤخّراً لتقلب المزازين كلّها في بلدٍ أقلّ كلمةٍ فيه هو أنّه ذاهب إلى الإنهيار التام أو هو فيه. كانت النتائج صرخات الجياع من معظم أنحاء لبنان، وفي الوقت نفسه، كانت الشاشات والياقات والكلمات تستضيف السياسات المتشظّية ليبدو المشهد ساحات أفواج تتقاتل بفعالية لا تطاق، وكأنّ وسائل الإعلام جبهات قتال وخرق وانقسام وإدارة للمعارك وربح الجولات وتعميق الحفر.
وفق هذه النظرة، تبدو دراسة ملف الاعلام مجدّداً في لبنان مسألة ضرورية، تعيدني إلى المؤتمر الوطني الإعلامي الذي عقد في فندق الكارلتون بعد اتفاق الطائف مباشرةً للبحث في تنظيم الإعلام المرئي والمسموع في لبنان. يومها كان "تقاتل" وسائل الإعلام، مسألة شديدة الدقة بعدما طغت الكلمة بكل الوسائل والصيغ على مساحات المعارك عدّةً فعليّة في القتال، وصلت إلى حدّ تدمير ذاتها نوعاً وشكلاً وتعبيراً عبر تمثيلها للطوائف والمذاهب والأحزاب والوطن الرسمي وفرقاء الصراع.
وإذا كنا، في مجال النظرة الأفقية إلى هذا الاعلام، ما زلنا نشهد انقساماً في الرأي، بين تبرئة اللغة والاعلام مما حصل فعلياً كونهما جاءا انعكاساً للواقع، وبهذا لا يعود الاعلام إعلام حرب بقدر ما هو إعلام تبليغ، وبين انجراف الاعلام في تفجير الواقع، وهو بهذا يتحمّل جزءاً كبيراً من مسؤوليات الحروب والأحداث، مما يرسخ النظرة الحادة التي تحمّل الاعلام إذكاء الفتن الطائفيّة ونتائج الحروب، فإنّه انقسام مذهبي لبناني أكثر منه بين بين الاعلام اللبناني وإعلام العرب في لبنان. ونحن لن ننسى
كيف تقاسمت الطوائف والأحزاب محطات محطّات البث وحقوق البث الفضائي من ال 1985.
عاد الإعلام في شراسته ينذر ويتأهّب نحو المعارك، وصارت الثورة في أمكنة أخرى، ويبدو المقاتلون الحقيقيون مدججين بقوة الإثارة والتأليب وشحذ الهمم والحميّات الطائفيّة، وكأن الكلمات وحدها تظفر بالحروب في لبنان "الميديا ستيت" من دون تداعيات الكوارث والتدمير ومن دون تذكّر المقولة الخطيرة بأنّ أفواه المدافع هي أقلّ خطورةً بكثير من أفواه الوشاة والصحافيين".
كاتب لبناني أستاذ في المعهد العالي للدكتوراه.