مع تفاقم حدّة الاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في لبنان وما رافقها من تحرّكات شعبيّة احتجاجاً على تردّي الأوضاع المعيشية في البلاد، وفي خضمّ التحديات الجمّة التي نواجهها اليوم والتي قد تكون الأشدّ وطأة منذ تاريخ تأسيس لبنان، بات الشأن الاقتصادي، بكافة محاوره، حديث الجميع ومحور اهتمام كافة أطياف المجتمع اللبناني. من هنا، لا بدّ من التطرّق إلى عرضٍ لمسار الاقتصاد اللبناني وتقييم أدائه وأبرز محطّاته خلال العقدين المنصرمين، لتسليط الضوء على حقبتين أساسيتين طبعتا ملامح الاقتصاد اللبناني الحديث. الحقبة الأولى التي اتسمت بفورة اقتصادية امتدّت من العام 2007 وحتى العام 2010، والتي لم يشهد لها لبنان مثيلاً على الإطلاق، حين حقّق خلالها الاقتصاد الوطني متوسّط نمو اقتصادي قياسي بلغ 9% سنوياً. أما الحقبة الثانية والتي شابها تباطؤ اقتصادي حادّ وصولاً إلى الركود، فقد امتدّت المرحلة الأولى من العام 2011 وحتى العام 2017، لينتقل بعدها الاقتصاد اللبناني في المرحلة الثانية إلى وضعية الركود (أو النمو الاقتصادي السلبي) وتحديداً منذ العام 2018 وحتى يومنا هذا، ليسجّل لبنان خلال تلك الحقبة الثانية والممتدّة من العام 2011 وحتى العام 2019 متوسّط نمو اقتصادي سنوي قارب الصفر في المئة.
بدايةً، وقبل الغوص في تفاصيل الحقبة الأولى، لا بدّ من التذكير بأنه ومع حلول الألفية الثالثة، دخل الاقتصاد اللبناني بين عامي 1999 و2000 حالة من الانكماش الاقتصادي لا سيما على صعيد حركتي الاستثمار والاستهلاك، ما أثّر سلباً على مُجمل الحركة الاقتصادية وعلى الإيرادات العامة. فبادرت حكومة الرئيس رفيق الحريري إلى طرح فكرة عقد اجتماع دولي لدعم لبنان اقتصادياً ومالياً، فاستجاب المجتمع الدولي والهيئات المانحة وانعقد مؤتمرا باريس 1 وباريس 2 بين عامي 2001 و2002. إلا أنّ برنامج الإصلاحات السياسية والإدارية والاقتصادية والمالية والاجتماعية التي انتهجته الحكومة آنذاك لم يُستكمل، إذ دخل لبنان بين عامي 2004 و2006 في نفق قاتم من الانقسامات السياسية الحادّة والخضّات الأمنية والاغتيالات مروراً بحرب تموز 2006. إلى أن بدأت أولى ملامح الأزمة المالية العالمية تتجلّى خلال العام 2007 لتنفجر في أيلول 2008، والتي اعتُبرت في حينه الأسوأ من نوعها منذ زمن الكساد الكبير سنة 1929، بعدما اشتعلت شرارتها بركود الأسواق العقارية في الولايات المتحدة الأميركية، وسرعان ما انتشرت تداعياتها بسبب ترابط الأسواق العالمية، لتمتدّ إلى دول العالم وتشمل الدول الأوروبية والآسيوية والخليجية وحتى الدول النامية التي يرتبط اقتصادها مباشرة بالاقتصاد الأميركي.
من هنا، وفي أعقاب التسوية السياسية في مؤتمر الدوحة في أيّار من العام 2008 ومن ثمّ انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وبعدما تحصّنت الساحة الداخلية نسبياً، تمكّن لبنان في ما بعد من الاستفادة بشكل أو بآخر من الأزمة المالية العالمية من خلال استقطابه تدفقات ضخمة من الرساميل الوافدة نحو اقتصاده المحلي على اعتباره ملاذاً آمناً وذلك نتيجة تعزّز عامل الثقة في الإطار الرقابي المصرفي والسياسات المتحفّظة للمصارف اللبنانية، ما أدّى بالتالي إلى دعم الحاجات الاستهلاكية والاستثمارية المتزايدة في البلاد. فاستطاع لبنان، على سبيل الذكر لا الحصر، أن يستقطب ودائع مصرفية بقيمة 47 مليار دولار بين عامي 2007 و2010، مع العلم أنّ حجم الودائع المصرفية حتى نهاية العام 2006 لم يكن يتجاوز 60 مليار دولار. وفي الإطار نفسه، سجّل ميزان المدفوعات، أو ما يُعرف بسجلّ جميع المعاملات الاقتصادية بين البلد وبقية العالم (أو ميزان تدفق الرساميل الداخلة والخارجة في فترة معيّنة من الزمن)، فوائض تراكمية بقيمة 17 مليار دولار خلال تلك الحقبة من الفورة الاقتصادية. في الوقت ذاته، حافظت التحويلات المالية للمغتربين اللبنانيين العاملين في الخارج على استدامتها وزخمها مع تدفق رساميل بما يناهز 7 مليارات دولار سنوياً، ليحتلّ لبنان المرتبة الأولى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من حيث نسبة التحويلات إلى حجم الاقتصاد. بناءً عليه، حقّق الاقتصاد اللبناني خلال تلك الفترة متوسّط نمو سنوي للناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (9%) من بين أعلى معدّلات النمو في الأسواق الناشئة والعالمية. وبالاستناد إلى إحصاءات صندوق النقد الدولي، فإنّ لبنان كان من بين البلدان العشر الأكثر نمواً من حيث متوسّط النمو الاقتصادي حول العالم خلال تلك الفترة.
إلا أنه ومع بداية العام 2011، بدأت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تشهد تطوّرات جمّة على إثر تحرّكات شعبية واسعة النطاق عُرفت بالربيع العربي، نجم بعضها عن مطالب سياسية واقتصادية واجتماعية، أدّت في ما بعد إلى سقوط عدد من الأنظمة العربية. إنما وفي ظلّ تردّي الأوضاع السياسية المحلية في لبنان مع بداية ذلك العام، لا سيما مع استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري الأولى ودخول البلاد مرحلة جديدة أخرى اتسمت بانقسام سياسي حادّ، يشبه إلى حدّ ما الانقسام الذي شهدناه بين عامي 2005 و2008، وذلك بالتزامن مع اضطرابات أمنية وتفجيرات متنقّلة ناهيك عن الارتدادات غير المباشرة للأزمة السورية، فإنّ البلاد لم تكن بوضع يؤهّلها الاستفادة من التطورات الإقليمية في حينه، خلافاً لما حصل إبّان الحقبة الأولى حين استفاد لبنان من الأزمة المالية العالمية، لتدخل البلاد في نفق الحقبة الثانية من التباطؤ الاقتصادي ومن ثمّ الانتقال إلى وضعيّة الركود التضخمي.
في التفاصيل، وبحُكم الجوار والترابط بين لبنان وسورية، فإنّ الاقتصاد اللبناني لم يكن بمنأى عن الآثار غير المباشرة للأزمة السورية التي اندلعت في شهر آذار من العام 2011. إذ برز ثلاث قنوات تأثير أساسيّة للأزمة السورية على الاقتصاد اللبناني، تجلّت بشكل خاص في قطاع السياحة ونشاط الاستثمار وحركة التصدير الخارجي، وذلك في اقتصاد يستحوذ فيه القطاع الثالث (أو ما يُعرف بقطاع الخدمات) على حصة الأسد، أي 82% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي. بناءً عليه، فإنّ التطورات الإقليمية بشكل عام والسورية بشكل خاص قد أثّرت سلباً في بداية الأمر على قطاع السياحة وعلى حركة الزوار القادمين من الدول العربية عبر البرّ السوري والذين إمّا غيّروا وسائل سفرهم أو حتى امتنعوا عن المجيء إلى لبنان واختاروا مقاصد أخرى، ناهيك عن حظر رعايا دول الخليج عن السفر إلى لبنان في ما بعد بسبب الاضطرابات الأمنية والسياسية التي طبعت تلك المرحلة آنذاك. ليتراجع عدد السياح الإجمالي من مستوى قياسي بلغ مليوني سائح في العام 2010 إلى أقلّ من 1.2 مليون سائح خلال سنوات الأزمة السورية، ولتنخفض معه الإيرادات السياحية من حوالي 7 مليارات دولار في العام 2010 إلى أقلّ من 3 مليارات دولار خلال السنوات اللاحقة وفق تقديرات أولية. أما على صعيد الاستثمار، ففي ظلّ مخاوف من تداعيات الاضطرابات المجاورة، قام المستثمرون الأجانب بتأجيل القرارات الاستثمارية الكبرى في لبنان، واعتماد سياسة الترقب والتريّث في توظيف رؤوس أموالهم في السوق المحلية، لتتقلّص الاستثمارات الأجنبية المباشرة بنسبة 50% (من 5 مليارات دولار إلى أقلّ من 2.5 مليار دولار) على أقلّ تقدير خلال الفترة نفسها. أما الصّادرات، فقد شهدت بدورها تراجعاً ملموساً بالمقارنة مع مستويات ما قبل العام 2011 (من 4.2 مليارات دولار في العام 2010 إلى ما دون 3 مليارات دولار في السنوات اللاحقة)، لا سيما مع تراجع حركة ترانزيت البضائع في ظلّ تردّي الوضع الأمني على طرقات النقل البرّي عبر سورية خلال تلك الفترة.
هذا وإضافةً إلى تداعيات الأزمة السورية، إلا أنّ الساحة المحليّة كان قد أصابها شلل مُحكم خيّم على معظم مؤسسات الدولة، بدءاً بالفراغ الحكومي بين حزيران 2013 وشباط 2014، مروراً بالفراغ الرئاسي بين أيّار 2014 وتشرين الأول 2016، وانتهاءً بثاني فراغ حكومي خلال النصف الثاني من العام 2018. طبعاً، وفي ظلّ الشرخ السياسي السائد وغياب التوافق المطلوب بين أركان القوى السياسية، لم تحقّق الحكومات المتعاقبة خلال تلك الفترة أيّ خرق جدّي على صعيد عمليّة إطلاق عجلة الإصلاحات الهيكلية المرجوّة لتفعيل الحركة الاقتصادية وإرساء سيناريو الهبوط الآمن في نسبة المديونية العامة التي ناهزت اليوم 180% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي ثاني أعلى نسبة حول العالم خلف اليابان وأمام اليونان.
عليه، فإنّ هذه العوامل، مجتمعةً، قد خلقت بلا أدنى شكّ ضغوطات جمّة لا يُستهان بها، أرخت بثقلها على قدرة لبنان في تأمين حاجاته التمويلية بالعملات الأجنبية والتي كانت تُقدّر بالمتوسط بحوالي 20 مليار دولار سنوياً. وبالتّالي فقد ساهمت هذه العوامل في خلق مزيدٍ من الضغوطات على موجودات مصرف لبنان الخارجية، لا سيما مع تسجيل ميزان المدفوعات عجوزات تراكمية بلغت 19 مليار دولار منذ العام 2011 وحتى شهر نيسان من العام 2020. لتُستنزف بذلك الفوائض التراكمية المحقّقة في ميزان المدفوعات والمكتسبة إبّان الحقبة الأولى، ولينتقل لبنان من وضعية التباطؤ الاقتصادي الحادّ (المرحلة الأولى من الحقبة الثانية) إلى وضعية الركود التضخمي (المرحلة الثانية من الحقبة الثانية)، بحيث بدأ الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بتسجيل نسب نموّ سلبية بدءاً من العام 2018. فانفجر معها الشارع في 17 تشرين الأول من العام 2019 احتجاجاً على تردّي الأوضاع الاجتماعية والمعيشية في البلاد، لا سيما في ضوء التدهور التدريجي في سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي في السوق الموازية بدءاً من أيلول 2019 ليتخطّى في الأيّام الأخيرة عتبة الـ6.000 ليرة لبنانية للدولار الأميركي الواحد، وينطلق معها لبنان في جولة مفاوضات جدّية مع صندوق النقد الدولي، للخروج من أعتى أزمة اقتصادية ومالية تواجهها البلاد على الإطلاق، وذلك في ظلّ تخلّف الدولة اللبنانية عن سداد مستحقاتها بالعملات الأجنبية، ناهيك عن تداعيات وباء كورونا على كافة القطاعات الاقتصادية، وانطلاقاً من الخطّة الاقتصادية التي أقرّتها حكومة الرئيس حسّان دياب في نهاية شهر نيسان المنصرم، في سياق توقّعات بانكماش اقتصادي حادّ في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي اللبناني بنسبة 14% في العام 2020، هي الأسوأ منذ العام 1989.
في الختام، وكما انبعث طائر الفينيق من رماده، سينبعث لبنان مجدّداً من رماد الفساد المستشري في كافة مفاصله، من رماد الهدر القابض على أنفاس ماليّته العامّة، والأهمّ من ذلك، سينهض لبنان يوماً ما من رماد أُمّ العِلل، العصبيّات الطائفيّة التي نخرت ولا تزال تنخر بما تبقّى من أشلاء وطن مُنهك يتوق إلى قيام دولة مدنيّة يُفصل فيها الدِّين عن الدولة. لبنان سيستفيق من كبوَته وسيصارع ركوده، وإن تطلّب منّا ذلك أن نحفر جبال أزماته المتراكمة منذ عقود بدبابيس من الإرادة والصبر. من هنا، وفي ظلّ هذه التحديات المتنامية والشائكة، باتَ الإجماع الداخلي اليوم أساسيّاً والانخراط الملائم لكافة قوى المجتمع اللبناني ضروريّاً، مع الحاجة إلى تقديم كلّ التنازلات الملحّة وتخفيض منسوب التباينات وتعزيز القواسم المشتركة في ما بيننا، وإطلاق عجلة الإصلاحات الهيكلية الضرورية من أجل وقف النزف المستمر من شرايين اقتصادنا الجريح وصون وطننا الحبيب، الذي سيحيا بأبنائه ومن أجل أجياله الصاعدة. كيف لا؟ ونحن، أبناء الحياة، نستحق أن نعيش حياة كريمة، لا بل حياة كلّها وقفات عزٍّ فقط.