لا يختلف اثنان على ان رئيس الحكومة الحالي حسان دياب سيدخل التاريخ في لبنان، ولكن هذا الدخول سيكون من بابين لا ثالث لهما: الباب الضيّق، والباب الواسع، فبعد كل ما شهده لبنان وبعد الكلام العالي السقف الذي اعلنه دياب نفسه دفاعاً عن نفسه وعن الحكومة التي يرأسها، لم يعد هناك من مجال للتراجع، فإمّا النجاح والدخول من الباب الواسع، او الفشل والدخول من الباب الضيّق الذي يعني بالنسبة اليه انتهاء حياته السياسية وطموحه المستقبلي في اي دور سياسي قد يقوم به. في الحقيقة، حاول دياب تقمّص شخصية رئيس الحكومة السابق سليم الحص، وان يلعب دور الرجل المنهجي البعيد عن الخلافات السياسية الضيقة، ولكنه ما لبث ان وجد نفسه امام الزامية ركوبه قطار اللعبة السياسية اللبنانية، والا لكان السراي الكبير فارغاً اليوم ولكنّا في دوّامة ايجاد شخصيّة لترؤس الحكومة.
لم يعد من مجال لعب دور الحص، فحاول رئيس الحكومة الحالي ممارسة سياسة "تدوير الزوايا" علّه يستطيع كسب الوقت كي يتم الانتهاء من المفاوضات مع صندوق النقد الدولي واستقطاب بعض الاموال الكافية لاخذ كميّة من الاوكسجين تمرّر هذه المرحلة بأقل قدر ممكن من الخسائر، ففشل في ذلك ايضاً. ركب قطار اللعبة السّياسية وبات حكماً لاعباً على الساحة، وها هو يطلق مواقف وشعارات تطرح عنه كل ما كان يميّزه عن غيره، واعلن الحرب على الفساد. هذا الشعار اساسي في طريق اي سياسي يرغب صعود سلّم النجاح، ولكنه فائق الصعوبة، وقد يكون اقوى واخطر من اسرائيل وجيشها، بشهادة حزب الله نفسه. فكلنا نذكر ان الحزب على لسان امينه العام السيد حسن نصر الله، اعلن انخراطه في المعركة ضد الفساد منذ اشهر عديدة، ولكنه فشل في مسعاه هذا، وبات ايضًا من المتّهمين بالمشاركة في "طبخة الفساد والهدر".
ما قاله دياب يستحقّ الوقوف عنده، ان لناحية عزمه على كشف الفاسدين والذين ساهموا في هدر اموال الدولة بالاسم عبر وثائق ووقائع، او عبر الحرب على الفساد مع كل ما يعنيه ذلك من سدّ ابواب السرقات والسمسرات وغيرها من الامور... حاول الكثير من المحاربين خوض هذه الحرب بنيّة صادقة او لتحسين الصورة، ولكن في الحالتين كانت النتيجة الهزيمة، والخاسرون كثر من رئيس الجمهورية الى رئيس مجلس النواب، ورؤساء الحكومة السابقين، ورؤساء الاحزاب والتيارات... كلهم ركبوا الموجة ولكنها قذفتهم بعيداً واعادتهم الى الشاطئ الذي انطلقوا منه، منهم من عاد بسبب عدم قدرته على المواجهة وافتقاره الى العدّة اللازمة، ومنهم من عاد طوعاً لانّ مصالحه تمنعه من اكمال المشوار حتى لو عنى ذلك تحسين شعبيته وموقفه السياسي على المدى البعيد. هذا الامر يدركه رئيس الحكومة الحالي بشكل اكيد، وما كان عليه "تكبير الحجر" الى هذا الحدّ، لانّه بذلك وضع نفسه في موقف حرج، وخسر سلاحاً لطالما استخدمه من سبقوه وهو سلاح الوقت، ولن ينفع ان يقول غداً ان هذه المسيرة طويلة وتحتاج الى وقت لتذليل العقبات، بل عليه ان يعطي الناس شيئاً ملموساً ليبنوا عليه، وندرك سلفاً ان ايّ شخصية اذا ما تم اتهامها -ولو بالوثائق والادلة- فستلبس ثياب "كبش المحرقة" وسينادى عليها على انها "الذبيحة السياسية" لبقاء دياب في مركزه.
لم يكن من الحكمة اطلاق هذا الموقف، ويبدو ان رئيس مجلس الوزراء احسّ بأن ظهره بات للحائط، وان عليه تطبيق استراتيجية شمشون "عليّ وعلى اعدائي"، لكن الطروف والمعطيات تختلف تماماً، ولن يكون من الممكن تهديم الهيكل، لا بل سيكون شمشون في هذه القصة هو الخاسر.
وعلى امل ان تكون قراءتنا للوضع خاطئة تماماً، فينجح دياب في وضع الاصبع على الجرح، ويدخل التاريخ من بابه الواسع، فلنترقّب ولنترك الحكم للوقائع.