بعد ساعات قليلة على المؤتمر الصحافي الذي عقده رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل، لم يعلق في ذهن الكثير ممّن سمعوه سوى موضوع واحد، او بالاحرى نقطة واحدة: "لن يكون رئيساً للجمهورية" بعد ان اعلن عدم رغبته بذلك خلال المؤتمر. قد يكون مفهوماً بالنسبة الى معارضي باسيل، تركيزهم وحصرهم الاهتمام بهذه النقطة، لانهم يسعون بالسرّ والعلن الى احباط ايّ مخطط او فكرة من شأنها ان تؤدّي الى وصوله الى قصر بعبدا بعد اقل من ثلاث سنوات من اليوم. اما حلفاء باسيل، فلا ذريعة لهم في التركيز على هذه النقطة، الا اذا كانوا هم انفسهم يعملون، بالسرّ وليس بالعلن، للغاية نفسها التي يعمل من اجلها معارضوه. واذا سلّمنا جدلاً ان باسيل لا يرغب بالفعل منصب الرئاسة -علماً ان الظروف تتبدّل والرياح تهب كل يوم من وجهة غير متوقعة- هل يمكن القول ان بقاءه خارج اسوار قصر بعبدا افضل ام اسوأ بالنسبة الى من يعارضه ويختلف معه سياسياً؟. في هذا السياق، يتوقع البعض الاسوأ، مستشهدين بالكلام الذي يصدر حالياً عن رئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري عن باسيل نفسه، والكلام القاسي الذي يوجّهه اليه الحريري، وهو الذي كان سابقاً من ابرز المقرّبين من رئيس التيار الوطني الحر والاكثر تفاهماً معه على "كل شاردة وواردة" حين كان يتولى رئاسة الحكومة، ويسأل هؤلاء: اذا كان القريب من باسيل قد اصبح من الدّ الاعداء، فما هو المتوقع من الاعداء بالاصل ان يصبحوا؟.
بالامس، تحدّث باسيل عن الكثير من المواضيع والمشاكل، وعرض بعض الحلول، وحاول كغيره اثبات انه غير مسؤول عن تدهور الاوضاع في لبنان، وهذا حقّ له. ولكن فيما اصاب في بعض الاماكن، بدا وكأنه يتحدّث خارج الواقعيّة في امور اخرى، وكل ذلك لم يمنع الجميع من التركيز على اعلانه عدم رغبته بالرئاسة كمسألة وحيدة تمّ طرحها. قد يكون باسيل تعمّد الاشارة الى هذه النقطة، ليسحب ورقة مهّمة من يد من يختلف معهم سياسياً، فلا يمكن لهم اعتباراً من الامس، اتهامه بأنه يعمد الى "السيطرة" على البلد من اجل حلم الرئاسة، فيما ستبقى الاتهامات الاخرى قائمة بشكل طبيعي. الابتعاد عن السباق الرئاسي لا يعني، في حال تم تحقيقه فعلاً، عدم تحول باسيل الى مشكلة اكبر بالنسبة الى الحلفاء والخصوم على حدّ سواء، وقد يصبح مطلباً من الجميع بدل ان يكون "مشكلة" يتهرّب منها الجميع، واذا ما تمكن من العمل على ترسيخ نهج معيّن او جمع تأييد شعبي اكبر، فقد يتحوّل الى صوت مهمّ في معادلة الانتخابات أكانت رئاسيّة ام نيابيّة ام بلديّة واختياريّة... ومن الطبيعي ان يحرج هذا الامر مرشّحين آخرين محتملين للانتخابات الرئاسيّة، وقد يعتبر النائب السابق سليمان فرنجيّه نفسه "مرشح التزكية" بعد اعلان باسيل عدم مشاركته في السباق الرئاسي، والكلام الصادر منذ فترة عن رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع حول وجود عقبات لوصوله الى الرئاسة، لكن الواقع سيفرض حتماً مرشّحين آخرين، وقد يصل فرنجيّه الى مسعاه، ولكن اذا ما حصل ذلك، فسيكون ضمن مسار قاسٍ وصعب وطويل.
على ايّ حال، فإنّ "الطلاق" بين باسيل والمنصب الرئاسي، لن يقدّم ولن يؤخّر، ما لم يضع رئيس التيار الوطني الحر استراتيجيّة يعيد من خلالها وصل ما انقطع مع الناس اولاً، ويعمد الى تنفيذ خريطة الاهداف او -قسم كبير منها- التي وضعها ثانياً، ليكسب مصداقية وتميّزاً عن سواه من السياسيين ورؤساء الاحزاب والتيارات، فيضمن بذلك مستقبلاً سياسياً باهراً ليس على مدى سنوات انما على عقود من الزمن.