من المفترض أن تُستخدم اللغة للدلالة على المعنى المقصود المراد إيصاله للآخرين، ولكننا اليوم نشهد وبشكل متعاظم استخدام اللغة بطريقة يقصد منها تشكيل حاجب عن المرامي الحقيقية للعبارات المستخدمة، لابل استخدامها بعكس المقصود منها تماماً؛ فقد أصدر الكونغرس الأمريكي ما أسماه "قانون حماية المدنيين في سورية" وهو في الحقيقة ليس قانوناً ولا يمت إلى القانون أو العدالة بصلة بل هو إجراء إجرامي خارج عن أي إطار شرعي دولي أو قانوني والهدف منه هو إلحاق أشدّ الأذى بكلّ أفراد الشعب السوري مدنيين وعسكريين واغتيال لقمة عيشهم بهدف كسر إرادتهم التي قاومت أعتى الحروب الإرهابية التي واجهها أي شعب عبر التاريخ. ونتيجة السرعة في الإيقاع العالمي والتسارع المتزايد في وسائل الإعلام الاجتماعية بأنواعها الكثيرة فإن التدقيق في الخبر ومحاولة مطابقته على أرض الواقع أصبحت من الحالات النادرة في يومنا هذا؛ فالجميع يتناقل الخبر عن الجميع ويختلط الغث بالسمين إلى أن تحسم القوة أو القدر مجريات الأحداث وتفرض المفهوم الذي تريد. وبالتزامن مع ما سمي قانون "
قيصر" صدّروا مصطلح صفقة "القرن" و "الضم"، وأخذ الجميع يشير إلى إجراء احتلال عنصري بتهجير السكان الأصليين وتدمير بيوتهم فوق رؤوسهم وسرقة أراضيهم التاريخية لصالح مستوطنين مستعمرين قادمين من كل أنحاء الأرض بأنها عملية "ضمّ" ولم يسأل أحد ضم ماذا إلى ماذا؟ أم أنه إمعان في أبشع أنواع الاحتلال لآخر الشعوب الأصلية التي تُري مأساتها للعيان ما حدث للشعوب الأصلية في الولايات المتحدة وأستراليا وكندا. ورغم سرعة التواصل وانتشار وسائل إعلام لا تحصى فإن الحقيقة المرّة تبقى غائبة عن كل هؤلاء وكأن أحداً لا يريد أن يبحث عنها أو أن يكتشفها. وبالتزامن مع الإجراء الإجرامي الأمريكي ضد الشعب السوري والإجراء العنصري الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني يرتكب العثماني الجديد بالتعاون والتنسيق مع العدو الصهيوني أبشع الجرائم بحق الشعب العربي من العراق إلى سورية وليبيا فالمغرب العربي. ومرة أخرى وبينما يتلذذ بالحديث عن خطر الأكراد في العراق وفي سورية على حكمه فإن العثماني يتخذ من هذا الموضوع تغطية أصبحت مكشوفة للجميع كي يسير في محاولة إعادة سلطته العثمانية على الدول العربية من خلال احتلال الأرض بالقوة العسكرية وتحويل اللغة والعملات إلى لغة وعملات تابعة لسلطنته. والانتشار الإرهابي من شمال العراق إلى شمال سورية إلى
ليبيا في حركات منظمة ومنسّقة تهدف بالنتيجة إلى إعادة الاحتلال العثماني للبلدان العربية وإعادة أمجاد سلطنة أجداده، ولذلك فإن كلّ ما يتشدّق به، من دعم لفلسطين وحقوق الفلسطينيين ومن امتثاله لأوامر الإسلام الحنيف، ما هو إلا قناع لكلّ مشاريعه التي تستهدف الأرض والوجود العربيين تماماً كما يستهدفهما العدو الصهيوني في فلسطين والجولان وكافة الأراضي العربية المحتلة. لقد أصبح واضحاً اليوم للجميع أن التوازنات التي يسير عليها العثماني الجديد بين كونه عضو في الناتو وعلاقته مع الولايات المتحدة وكونه عضو في أستنا وعلاقته مع روسيا كلها تهدف إلى تحقيق مشاريعه الخبيثة ودعم الإرهاب واحتلال الأرض وتهجير السكان الأصليين من الأرض التي يحتلها بقوة السلاح وحرق محاصيلهم كي لا يتمكنوا من العيش واستبدالهم بأُسر إرهابيين موالين لمخططاته ويشكلون أدواتٍ له ولكن بأغلفة وعناوين ومسميات مختلفة. ورغم إساءة استخدام اللغة ونشر الأكاذيب فإن الحقيقة أصبحت واضحة وضوح الشمس ولا غبار عليها أبداً؛ فالعثماني والأمريكي يحرقون قوت المواطن السوري في أراضي سورية الخيّرة لتهجير هؤلاء السكان واستقدام مستوطنين جدد؛ تماماً كما يفعل العدو الصهيوني على أرض فلسطين طيلة القرن الماضي وإلى حدّ اليوم، ويحاول اليوم استكمال سرقته للأرض والمياه
والتاريخ من خلال ما أسماه "الضمّ" وهو أكبر جريمة ترتكب بحق الشعب الفلسطيني لتستكمل الجرائم التي لا تحصى بحقه وحق وطنه وتاريخه ومقدراته ومستقبل أبنائه.
وفي جرائم حرق المحاصيل أرى تكراراً لعمليات قتل البوفالو العشوائية التي حرمت سكان أمريكا الأصليين من غذائهم الأساسي وتركتهم عرضة للأمراض والموت وشوّهت تاريخهم وصادرت فنونهم وأخرست كل الأصوات التي كان يمكن أن تحكي لنا القصة الحقيقية لما حدث لهؤلاء الشعوب كي نتعلم منها. والمحرك الأساسي لكل ما يرتكب بحق شعوبنا هو ذاته الذي مازالت تعاني منه الشعوب المستضعفة حتى في الولايات المتحدة ذاتها ألا وهي النظرة العنصرية والقوانين العنصرية والتي تسمح لهؤلاء بارتكاب أبشع الجرائم بحق الشعوب الأصلية لأنهم يعتبرونهم أقل من مستوى البشر. وفي كلّ هذا المسار افتقد العرب وللأسف للرؤية الجمعية التي تجمعهم كعرب، وصدّق البعض منهم دعوات الصداقة والتعاون والشراكة مع العدو فانساقوا في مسار تطبيعي لن يزيدهم إلا ضعفاً وهواناً في نظر من يستهدفهم ويستهدف وجودهم بكل طريقة ممكنة.
الخلاص الوحيد اليوم ربما يكمن في النضال الأممي العالمي الذي شهده العالم في منتصف القرن الماضي وطرح كلّ القضايا على ضمير البشرية لأن الحدود الجغرافية لم تعد قادرة على معالجة كلّ التحديات المطروحة عليها ولأنّ المشترك في المعاناة بين المستضعفين في الولايات المتحدة وأوروبا وبين المستضعفين في الوطن العربي كبير وينبع من ذات المصدر وذات التفكير في كلّ هذه الحالات. ولذلك حين تقف إيران مع العراق وسورية وفنزويلا وحين تقف روسيا مع سورية والصين أيضاً فهذه بداية يمكن البناء عليها من خلال رؤية عالمية تنظر إلى الصراع على أنه بين الحقّ والباطل وتخترق الأسماء لتصل إلى كنه المسمّيات وتبني تحركاتها على أساس الجوهر وليس على العناوين المضلّلة والتي تهدف إلى تحرير الضمائر بينما تستمر في عمليات إجرامية لا علاقة لها بما تدعيه ولا تمت إلى الحقائق أو حقوق الشعوب بصلة.
لقد كرّس الحكام في الغرب والدوائر الصهيونية الحاكمة في الولايات المتحدة وأوروبا أموالاً وجهوداً من خلال اللوبيات ومراكز الأبحاث كي يصلوا إلى هذا المستوى من التضليل كما فعل العثماني الجديد أيضاً بتكريس أموال منهوبة من موارد شعوبنا للدفع بمخططه الاستيطاني في البلاد العربية، ولكنّ الطرف العربي المتضرّر من كل ما يجري على المدى القريب والبعيد يتلقى
نتائج كلّ ما يُعدّ له دون أن يضع استراتيجية مواجهة. ونلاحظ أن بعض عناصر البرلمانات الأوروبية تتخذ مواقف أكثر شجاعة لرفض العدوان الذي يعدّ له الكيان الصهيوني ضد حق الفلسطينيين التاريخي. كلّ ذلك حصل بعد أن تم إشغال العرب بحروب لا تنتهي وأقنعوا بعضهم بتمويل وتسليح إرهاب يعبث بأمن إخوانهم ليتمّ في النهاية إضعاف الجميع والسيطرة على مواردهم ونهب آثارهم وتزوير تاريخهم تمهيداً لسيطرة كيانات أخرى على المنطقة العربية ومواردها الجمّة.
في هذا الوقت الذي تعقد فيه صفقات كبرى، من صفقة القرن إلى صفقات العثماني الجديد في الوطن العربي من مشرقه إلى مغربه وتلفّق كلّ الأكاذيب ويتم تزوير التاريخ القريب والحالي، لابدّ من رؤية شاملة ومعمقة تنطلق من هذه الأرض ولا تقتصر عليها لأن الحلول الصغيرة لم تعد قادرة على مواجهة كل هذه التحديات. ولا بد من رفع الغشاوة عن الأعين واتباع الآليات الناجعة كتلك التي اتبعتها الصين لصعود سلّم القطب الأهم في العالم والتي اتبعتها إيران لتحوّل العقوبات القاسية إلى فرصة للإبداع والإنجاز فأطلقت قمرها الصناعي وصنعت طائراتها وسياراتها وتحدّت العقوبات الأمريكية بالعمل الجاد وأمام أعين العالم.
لنرفض الأسماء التي يصدّرونها لنا، ولنكشف حقيقة المسميات، ولنعمل على نطاق إقليمي ودولي ونستقطب كل القوى التي تشاطرنا الرؤى والأفكار حيثما كانت كي يكون العمل بحجم التحدّي المطروح وهو تحدٍ كبير ومصيري ونحن قادرون على مواجهته ولكن بأساليب مختلفة وخلّاقة نجترحها اليوم من عمق معاناتنا ومعاناة البشر حيثما كانوا؛ فالمعركة واحدة على هذا الكوكب واستجماع القوى لخوضها هو الخطوة الأولى في الاتجاه الصحيح.