ينقسم لبنان إزاء قرار التوجه نحو الشرق للتعامل الإقتصادي بين وجهتي نظر: أولاً، الإعتماد على العواصم الشرقية من دون أيّ إكتراث بموقف الغرب، مع الحفاظ على التعامل مع العواصم الغربية حيث تدعو المصلحة والحاجة، ثانياً، عدم التوجه شرقاً وابقاء اقتصاد لبنان مربوطاً بالغرب. على هذا الأساس يدور سجال ضمني بين اللبنانيين، لا يبتعد عن السياسة بأي شكل، خصوصاً أنّ كل نقاش لبناني يتخذ ابعادا سياسية من ضمن لعبة التوازنات الإقليمية التي يصبح فيها لبنان ساحة للنزاع الخارجي.
لم يعد سراً أن هناك حصاراً خارجياً سياسياً ومالياً على لبنان، بدليل وقف كل المساعدات والقروض والهبات العربية والغربية، اضافة الى تعرض إقتصاديين فيه اما لعقوبات او لترهيب بوضعهم على تلك اللائحة. وعلى هذا الأساس يمر لبنان بمرحلة صعبة جداً: ما هو الآتي؟ يقول المطلعون إن الفترة الفاصلة عن الإتفاق الأميركي-الإيراني المرتقب بعد انتخابات الولايات المتحدة ستشهد مزيدا من الضغوطات الإقتصادية المعيشية المؤلمة. قد تمتد تلك الفترة لحد سنة على الأقل، لإنضاج أي إتفاق بين طهران وواشنطن. عندها فقط يمكن فكّ القيود الغربية والعربية عن لبنان التي باتت واضحة في محاولة الأميركيين رمي كرة مسؤولية الأزمة اللبنانية الحالية في ملعب "حزب الله"، لإستكمال سلسلة الضغوطات ودفع الحزب للقبول بتنازلات فيما يتعلق بسلاحه، وحدود لبنان وملف الغاز والنفط في البلوكات الحدودية. من هنا يأتي جوهر وهدف تصريحات السفيرة الأميركية دوروثي شيا الأخيرة.
يشكّل قرار الإنفتاح نحو الشرق أملاً للخلاص اللبناني. لكن يعيق هذا التوجه أكثر من مطب: اولاً، لم تُقدم حكومة لبنان الحالية على إتخاذ اي خطوة عملية نحو سوريا التي تشكل بوابة لبنان نحو الشرق. علماً أن قرار الإبتعاد الحكومي عن دمشق متخذ عند الحكومة اللبنانية منذ ما قبل سريان قانون "قيصر". يقال ان أكثر من شخصية لبنانية حاولت فتح موضوع التعاون مع سوريا عبر رئيس الحكومة حسان دياب لكنه كان يكرر الرفض المُطلق.
ثانياً، شكّلت أزمة لبنان المالية عامل قلق لكل الدول بما فيها الشرقية، التي باتت ترفض التعامل الإقتصادي مع لبنان من دون دفع أموال مسبقة. ومن هنا جاء مضمون كلام السفير الصيني في بيروت الذي اجتمع مع نواب بقاعيين من مختلف الكتل النيابية في منزل النائب عبدالرحيم مراد، فرفض مبدئياً مشروعاً لبنانياً لدعوة بكّين لتنفيذ مشروع نفق ضهر البيدر. برّر السفير الصيني بأن بلاده تخشى من تراجع تصنيفات لبنان المالية، بعد التخلّف عن تنفيذ التزاماته. مما سبّب قلقاً عند سامعيه النواب الحاضرين، وفُهم أن بلاده لن تقف الى جانب لبنان، رغم ان وفدا صينياً حكومياً وإقتصادياً مشتركاً كان زار لبنان عام ٢٠١٦ وابدى استعداده آنذاك لدعم لبنان والتعامل معه. فلماذا يتراجع الصينيون الآن؟ هل بسبب الأزمة المالية اللبنانية؟ ام أن الصين لا تريد ان تُغضب الأميركيين من خلال التدخل الإقتصادي في لبنان؟.
يأتي الكلام الروسي ايضاً مشابهاً للكلام الصيني بشأن الإقتصاد اللبناني. قالها السفير الكسندر زاسيبكن بشكل علني بأن موسكو ليس لديها القدرة المالية لمساعدة لبنان. فعلاً يأتي كلامه صادقاً وواقعياً في ظل أزمة مالية عالمية. لكن إشاراته كانت تدل على أن الملفات المالية والمصرفية اللبنانية ترتبط بواشنطن. هو سبب كاف لموسكو لعدم وضع يدها بيد الاقتصاديين اللبنانيين من دون دفع التكاليف المالية للروس. علما ان لبنان كان حاول سابقاً نيل دعم موسكو عسكرياً واقتصاديا، فأظهر له الروس ان بلادهم ليست جمعية خيرية، خصوصا أن سياسيين واقتصاديين وقادة عسكريين وحكومات لبنانية كانوا يرتبطون بواشنطن ارتباطاً وثيقاً لا يُطمئن الروس الذي لا يريدون ايضاً استفزاز الأميركيين في لبنان.
اذا سلمنا جدلاً بأن الأميركيين لا يمنعون لا الروس ولا الصينيين، ولا هؤلاء يستجيبون للرغبات الأميركية، فما هو موقف تل أبيب من أي دعم محتمل من موسكو وبكين لبيروت؟ اذا كانت الصين التي تشرف على توسيع مرفأ حيفا لإعتماده كمرفأ أساسي في الإقليم، فمعنى ذلك انها لن تُغضب الإسرائيليين في فترة النزاع بين تل أبيب و"محور المقاومة". واذا كانت موسكو ترتبط بعلاقات قوية مع تل أبيب وتريد استثمار حقول نفط إسرائيلية، فهل تُغضب الإسرائيليين في لبنان كما تفعل في سوريا؟ لسوريا حسابات أخرى عند الروس والصينيين، لا تنطبق على لبنان.
لا يمكن الإعتماد على هذا الرد الصيني ولا الموقف الروسي للقول إن خيار الشرق لا ينفع اللبنانيين الآن. هناك بدائل عدّة موجودة، وبدل دفع الأموال لعواصم غربية يمكن دفع أقل منها لتلك العواصم الشرقية للحصول على متطلّبات لبنان. وهنا لا يمكن الحديث نظرياً من دون دراسة جدّية تفصيلية لكل أوجه التعاون والاستفادة من الاتفاقيات المطروحة. متى تحدد الحكومة برنامجها؟ كيف؟ الجواب عندها وهي التي تمشي خطوات سلحفاتية في ظل وضع لبناني سياسي واقتصادي ومالي لا تُحسد عليه.