لوحظ بشكل لافت وغير اعتيادي أنّ هناك تواتراً في إطلاق التصريحات للمسؤولين في وزارة خارجية الولايات المتحدة الأميركية وسفيرتهم في بيروت، والتي تتدخل بشكل فظ في الشؤون الداخلية للجمهورية اللبنانية، في مؤشر على استنفار أميركي واضح لإدارة الحرب الاقتصادية المالية التي بدأتها، منذ شهور، ضدّ لبنان.. لا سيما أنّ التصريحات تضمّنت إنذارات واضحة بأنّ أميركا لن تسمح للبنان بالحصول على أيّ قروض مالية من صندوق النقد الدولي ومؤتمر سيدر إذا لم يقبل بالشروط التالية..
أولاً، إقصاء حزب الله المقاوم وحلفائه عن السلطة التنفيذية، وتشكيل حكومة اختصاصيين موالية لواشنطن..
ثانياً، قبول مقترح السفير الأميركي فريدريك هوف لترسيم الحدود البحرية والبرية بما يعطي كيان العدو الصهيوني جزءاً من مياه لبنان الإقليمية الخالصة في البلوكين 9 و10 الغنيين بالنفط والغاز، تقدر مساحته بـ 360 كلم مربع..
ثالثاً، إضعاف وتحجيم المقاومة وإبعادها عن الحدود مع فلسطين المحتلة، وتعديل قواعد الاشتباك في القرار 1701 بما يسمح لقوات اليونيفيل لعب دور أمني في جنوب الليطاني لضمان أمن كيان العدو الصهيوني وتمكينهُ من العودة إلى سرقة مياه الوزاني وحرمان البلديات الجنوبية منها..
هذه الأهداف الأميركية ظهر جزء منها كشعارات رفعت في التظاهرات من قبل مجموعات الـ NGOS المدرّبة أميركياً لقيادة الثورات الملوّنة للإطاحة بالحكومات غير الموالية لواشنطن وتقف عقبة أمام تحقيق مشاريعها الاستعمارية، على غرار ما حصل في أوكرانيا والبلقان والربيع العربي إلخ… فشهدنا بدايةً أنّ هذه المجموعات ركزت على مطلب يستقطبُ اللبنانيون عامة، الذين اكتووا بنار الأزمة المعيشية، وهو محاربة الفساد والاقتصاص من الفاسدين، والقول إنّ كلّ من هم في السلطة فاسدون أو يحمون الفساد، والهدف طبعاً هو شُمول حزب الله بذلك وتحميلهُ هو وحلفاؤه في السلطة المسؤولية عن حماية النظام الفاسد ومنع محاربة الفاسدين واستعادة الأموال المنهوبة إلخ… ثم تطورت الشعارات حتى كشفت هذه المجموعات عن الهدف الحقيقي وهو الإتيان بحكومة اختصاصيين لا يكون فيها ممثلون لـ حزب الله وحلفائه تكون مهمتُها تنفيذ الانقلاب الأميركي وتحقيق الشروط التي وضعتها واشنطن لرفع الحصار عن لبنان… وعندما فشلوا في ذلك، بعد استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري، وتشكيل حكومة حسان دياب بدعم من الأكثرية النيابية، تقرّر إخراج الأهداف الأميركية المُراد تحقيقها، من خلال محاولة الاستيلاء على السلطة، إلى العلن، وهي المطالبة بتنفيذ القرار 1559ونزع سلاح المقاومة ونشر القوات الدولية على الحدود مع سورية تحت ذريعة وقف التهريب.. وصولاً إلى ما صرّح به أخيراً المسؤولون الأميركيون بالربط بين قبول لبنان ترسيم الحدود البحرية وفقَ مقترح هوف، ورفع الحصار المفروض عليه لتمكينه الاستفادة من ثروته في مياهه الإقليمية..
لكن فشل القوى والمجموعات الموالية لواشنطن في تحقيق الأهداف المطلوبة من الحصار المالي، وما أدى إليه من تفجير للأزمة المالية النقدية والاجتماعية المعيشية في الشارع.. على الرغم من دعم الماكينة الإعلامية لحركة هذه القوى والمجموعات 24/24 .. شعرت واشنطن أنّ الثورات الملونة التي نجحت في أوكرانيا ودول البلقان وطُبق نموذجها في الربيع العربي.. تواجهُ التعثر في لبنان ومهدّدة بتداعيات سلبية على النفوذ الأميركي بإضعاف القوى الموالية للولايات المتحدة، والتي ترتكز إليها في تدخُلها بشؤون لبنان الداخلية.. فقرّرت الإدارة الأميركية الاستنفار وتشكيل لجنة من الخارجية لإدارة الحرب الاقتصادية والمالية عبر تكثيف التدخل الأميركي والمجاهرة علناً بما تريده واشنطن من لبنان، وهو الخضوع لشروطها القاضية بتنازل لبنان عن جزء من ثروته النفطية وإقصاء حزب الله وحلفائه عن السلطة عبر استقالة حكومة حسان دياب وتشكيل حكومة جديدة موالية لواشنطن، وتعديل القرار 1701 مقابل رفع الحصار عن لبنان..
ولتحقيق ذلك بدأت إدارة حرب الحصار بقيادة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو ومعاونيه تصعيد الضغوط الاقتصادية والمالية، عبر…
1 ـ تحريض الأطراف اللبنانية الموالية لواشنطن على التحرك لإسقاط الحكومة اللبنانية باعتبارها حكومة حزب الله.. والعمل على تشكيل حكومة موالية للسياسة الأميركية وقادرة على تنفيذ ما تريده واشنطن من طلبات تخدم السياسة الأميركية الإسرائيلية…
2 ـ تحريض اللبنانيين ضدّ المقاومة وسلاحها من خلال الزعم بأن المقاومة هي سبب الأزمة الاقتصادية والمالية..
إنّ واشنطن تدرك أنّ سلاح المقاومة هو الذي يقف حائلاً دون تمكن كيان العدو الصهيوني من سرقة نفط وغاز ومياه لبنان.. وهو الذي أسهم في إحباط أهداف الحرب الإرهابية الاستعمارية ضدّ سورية ولبنان، والتي استهدفت قصم ظهر محور المقاومة، مما حال دون تعويم مشروع الهيمنة الاستعمارية الأميركية على كامل المنطقة، وتمرير خطة القرن لتصفية القضية الفلسطينية.. ولهذا فإنّ الإدارة الأميركية استشعرت الخوف من أن يتفلت لبنان من قيود الحصار الاقتصادي الأميركي، وأن يتجرأ على الاتجاه نحو دول الشرق لتنويع علاقاته الاقتصادية وإيجاد أسواق لتصدير إنتاجه واستيراد حاجاته من دول تقبل التداول بالعملات الوطنية بديلاً عن الدولار.. وبالتالي تقليص حاجة لبنان للدولار.. إلى جانب حلّ مشكلات لبنان المالية والخدماتية من قبول العروض الصينية والإيرانية والروسية المتنوّعة والتي تُجنّب الحكومة اللبنانية الخضوع لشروط صندوق النقد الدولي ومؤتمر سيدر، بل تجعلُها في موقع قوة في التفاوض معهما للحصول على قروض ميسّرة غير مشروطة إذا أراد..
إنّ لجوء واشنطن إلى إشهار الحرب الاقتصادية والمالية لتجويع الشعب اللبناني بهدف دفعه إلى التخلي عن مقاومته وسيادته وجزء من ثرواته، إنما يعكسُ من جهة الوجه البشع للسياسة الاستعمارية الأميركية، ومن جهة ثانية يكشفُ مدى إفلاس السياسة الأميركية وفشلها في تحقيق أهدافها بوساطة حروبها العسكرية المباشرة والإرهابية غير المباشرة..
لكن كما تؤكد التجربة فإنّ المقاومة وحلفائها الذين صمدوا في مواجهة أشرس حرب إرهابية ونجحوا في تحقيق الانتصارات الهامة عليها وإحباط أهدافها، سيتمكنون من الصمود في مواجهة الحرب الاقتصادية المالية وإحباط أهدافها بإيجاد البدائل الاقتصادية التي تحبط أهداف الحصار الاقتصادي، وتحوّله إلى فرصة لبناء اقتصاد منتج والانفتاح على الشرق لتسويقه، وبالتالي إفقاد أميركا آخر سلاح تملكهُ للضغط على لبنان…