مضت سنوات على قرار الحكومة الإسرائيلية التنقيب عن الغاز في البلوك D، الذي يتداخل مع البلوك 9 اللبناني، وفق الخرائط الإسرائيلية. فلماذا الآن، في اللحظة اللبنانية البالغة الحساسية، اتّخَذ الإسرائيليون قرار البدء في التنفيذ؟ هل المشهد الآتي حربٌ أم مفاوضات؟ أم حربٌ للمفاوضات؟
لا تنحصر مشكلة لبنان في أنّ إسرائيل ستستولي على جزء من مخزون الغاز في البلوك 9، هو الواقع في المنطقة المتنازَع عليها. المشكلة هي أنّ خزانات الغاز تتداخل في قعر البحر. وهذا يعني أنّ إسرائيل، عندما تسحب مخزوناتها في البلوك D، ستسحب أيضاً من مخزونات لبنان في شكلٍ خفيّ، وبكميات يمكن أن تكون هائلة.
وأمّا مأزق الـ 850 كليومتراً مربعاً، وهو مساحة المنطقة المتنازَع عليها مع إسرائيل، فيبقى قنبلة جاهزة للانفجار. وغالبية هذه المساحة لا تقع في البلوك 9 أو في البلوك 10، بل في البلوك 8، حيث تَتّسِع كثيراً انفراجة الخط الذي رسمه الإسرائيليون في البحر، فتصبح قيمة الفارق عشرات المليارات من الدولارات، وفق تقدير الخبراء.
وعليه، فإنّ مباشرة الإسرائيليين استثمار المنطقة المتنازَع عليها في البلوك 9، ستشجّعهم على التوغّل والاستثمار في المنطقة الأكثر اتّساعاً، أي في البلوك 8، إذا لم تصدر عن لبنان ردّة فعل رافضة.
بناء على ذلك، يُفترَض أنّ الإسرائيليين يتحسّبون لمواجهة عسكرية معينة مع «حزب الله»، وربما مع صواريخه الدقيقة التوجُّه. ولكن، وفق العديد من الخبراء، قد يعمد الإسرائيليون إلى نزع أي ذريعة من أيدي «الحزب» إذا قاموا باستثمار جزء من الغاز اللبناني، بطريقة خفيّة في قعر البحر.
وينكبُّ الخبراء على التفكير في الخلفيات الكامنة وراء قرار الحكومة الإسرائيلية، في شكل مفاجئ، معاكسة التحفظات التي لطالما أبداها خبراؤها العسكريون والأمنيون، والدخول في هذا التحدّي الخطِر مع لبنان. وأبرز الاحتمالات هي الآتية:
1 - أن يكون الإسرائيليون «محشورين» بالوقت أميركيّاً، وقد اضطروا إلى القيام بالخطوة، على رغم إدراكهم للمخاطر التي تكتنفها. فولاية الرئيس دونالد ترامب على وشك الانقضاء، وليس مضموناً بقاؤه في البيت الأبيض بعد كانون الثاني المقبل.
ولذلك، بأيّ ثمن، يريد الإسرائيليون فرض أمرٍ واقع على الحدود البحرية مع لبنان، بحيث تضطر الإدارة الأميركية المقبلة إلى قبوله مسبقاً وتنطلق منه للبحث عن أي مخرج. ولا يستبعد بعض الخبراء أن تحظى الخطوة الإسرائيلية بدعم من إدارة ترامب.
2 - إستطراداً، ربما أراد الإسرائيليون استغلال التشدّد الأميركي المتنامي، في معاقبة «حزب الله» والمحور الإيراني، خصوصاً من خلال «قانون قيصر» الذي يفرض عقوبات على أي جهة تساهم في تمويل النظام السوري وحلفائه في المجال النفطي.
فمن خلال هذا التفسير، يمكن للإسرائيليين أن يخنقوا أي محاولة لبنانية لاستثمار الطاقة النفطية والغازية في المتوسط، بذريعة أنها ستكون مصدراً لتمويل «حزب الله». وهم يستطيعون تأليب القوى الدولية، ولا سيما الغربية، للوقوف إلى جانبهم في هذا المجال.
3 - أن يكون الإسرائيليون راغبين في استغلال حال الاهتراء التي يمرّ بها لبنان، وهي الأسوأ على الإطلاق. فاللحظة ربما تناسبهم لفرض خيارات كثيرة على لبنان، تبدأ بترسيم الحدود البحرية والبرية ولا تنتهي بملفات ساخنة تعني لبنان في «صفقة القرن» التي تسلك طريق التنفيذ خطوة خطوة.
وقد تجد إسرائيل مصلحتها في فتح مسارات التفاوض مع لبنان، في هذه اللحظة، فيما هو يحاول، تحت الضغط وبأي ثمن، استرضاء صندوق النقد الدولي والولايات المتحدة للحصول ولو على مقدار بسيط من المساعدات. ولطالما تردّد في لبنان أنه سيتمكن من الإيفاء بديونه الهائلة عندما يتقاضى ثمن انخراطه في التسوية الإقليمية.
فهل آن أوان التفاوض على هذه التسوية؟
في تقدير بعض الخبراء أن «تَحَرُّش» إسرائيل بلبنان نفطياً، إذا حصل، لا يمكن أن يمرّ مرور الكرام. فـ«حزب الله» لا بدّ أن يردّ بوسائله العسكرية، أيّاً كان الثمن، ولو ضمن حدود مضبوطة. وقد يكون الكثير من الأطراف الدوليين والإقليميين راغباً في استدراج «الحزب» إلى هذا المكان.
وأيّ مفاوضات تُجرى اليوم مع إسرائيل، عبر الولايات المتحدة والأمم المتحدة، سيتولاها أو يُشرف عليها من الجانب اللبناني طرفٌ يثق فيه «الحزب». وحتى الآن، كان الرئيس نبيه بري هو المولَج بهذا الملف. وقد حاولت أطراف أخرى أن تتبرّع بأداء هذه المهمَّة، لكنها لم تنجح.
ولذلك، قد يكون وارداً أن تبدأ المسألة بمواجهة عسكرية محدودة في المنطقة الحدودية، بين لبنان وإسرائيل، تستمرّ أياماً، وتنتهي بجلوس الجميع إلى طاولة المفاوضات.
وهناك، تبدأ النقاشات بالنفط والحدود البرية والبحرية وتتمدَّد إلى مسائل الأمن وتوازنات القوى الإقليمية. وقد يجد الإسرائيليون، ومعهم الأميركيون، أنّ الفرصة سانحة للتركيز على وضع ضوابط لنفوذ «حزب الله»، أي لإيران على حدود إسرائيل الشمالية، في لبنان وسوريا والساحل الشرقي للمتوسط.
في هذه الحال، يُطرَح السؤال: ما انعكاس ذلك على الأزمة اللبنانية عموماً؟ وهل يقود إلى سلّة توافقات استثنائية تترك أثرها الحاسم على هذه الأزمة، وعلى مستقبل لبنان؟