يبدو ان اميركا اختارت لبنان ليكون ميدان تعويض خسائرها في المنطقة والعالم فضلا عن الداخل الأميركي. فمن يطلع على فعاليات السياسة الأميركية في مختلف عناوينها ووجوهها يجد ان ترامب يتخبط في خيبات الامل بدءا من الداخل حيث الفشل في مواجهة كورونا و التهديدات التي تواجه الاتحاد و التي لم يكن اخرها حجب الرمز الاتحادي عن علم احدى الولايات الجنوبية ، مرورا بساحات القتال في الشرق الأوسط حيث فشلت اميركا في اسقاط النظام في سورية و تحولت الى مقولة السعي لتغيير السلوك ، و عجزت امام ايران التي برعت في توجيه الصفعات و الركلات لها بدءا من قاعدة عين الأسد الى شواطئ فينزويلا التي شهدت التحدي الإيراني الكبير بعملية الناقلات الخمس .
بيد ان الخسارة الأميركية المدوية لترامب خاصة ، كانت على الصعيد السياسي و الدبلوماسي في مجلس الامن ، المجلس الذي خذلها بعد ان كانت اميركا قد حولته بعد سقوط الاتحاد السوفياتي منذ ثلاثة عقود الى دائرة ملحقة بالخارجية الأميركية يبصم لها على كل مشروع تريده ، و نادرا ما كان يمتنع أعضاؤه الدائمين او المؤقتين عن الموافقة على مشروع تقدمه اميركا ، لكن هذا المجلس رفض اليوم و بشكل دراماتيكي سعي اميركا لتمديد العقوبات المفروضة على ايران بسبب الملف النووي ، رفض الطلب الأميركي دون ان تجد اميركا أحدا من الأعضاء يأخذ بوجهة نظرها او يتفهم مطالبيها لا بل انها وجدت الكثير منهم ممن يحملونها المسؤولية المباشرة عن انتاج المخاوف التي تبديها و يربطون ذلك بقرار ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي الدولي معها .
وبالتالي فان اميركا بقيادة ترامب تجد نفسها اليوم انى توجهت تحصد خيبة وخسارة، الى حد ان المجال الوحيد الذي كان يفاخر به ترامب بانه مصدر سعادة واغتباط له وهو المجال الاقتصادي، بات يئن تحت الضربات التي تلقاها إثر جائحة كورونا ما تسبب بأغلاق المئات من المؤسسات وتشريد الملايين من العمال وارتفاع مستوى البطالة ولم تنفع المليارات السبعمئة ونيف التي حلبها ترامب من الابقار الخليجية الحلوب، لم تنفع في حجب هذه الكوارث التي حلت بأميركا وأخرجت من يد ترامب ما كان يباهي به من أوراق اقتصادية.
و يشعر ترامب ان هذه الخسائر المتعددة الأنواع و الاحجام و المفاعيل تحل بأميركا في وقت قاتل بالنسبة له هو الوقت الذي يخوض فيه معركة تجديد ولايته عبر انتخابات اعد لها ان تجري في الأسبوع الأول من تشرين الثاني نوفمبر القادم أي يعد 4 اشهر من الان ، اشهر أربعة يريد ترامب ان يحقق فيها أي انتصار في أي مكان و من أي نوع حتى يخرج على الناخب الأميركي بصورة المنتصر الذي يستحق الثقة و يستحق التجديد له .ويرى ترامب ان معظم هذه الخسائر كانت بسبب صمود محور المقاومة و عجز اميركا عن ترويضه و تحقيق أهدافها الاستراتيجية في مواجهته ما يعني ان الحل برايه لا يكون الا عبر توجيه ضربة قوية لهذا الحور تحجب الخسائر.
بيد ان اميركا تدرك ان أي عمل عسكري تقوم به الان ضد محور المقاومة هو مغامرة غير مضمونة النتائج لا بل تشبه الانتحار ، لذلك لا يرى ترامب في الحرب العسكرية حلا ،ما جعله يجنح الى فكرة حرب أقل كلفة عليه و أكثر ايلاما لمحور المقاومة ، فكانت فكرة الحرب الاقتصادية و الإرهاب الاقتصادي لكن ترامب يعرف ان هذه الحرب لا تسقط دول و ان تسببت بإيلامها ، ثم ان مفاعيل هذه الحرب تتأخر بالظهور و تتطلب عادة السنوات الطويلة و ترامب لا يملك ترف الوقت في ظل المهل القصيرة التي لا تتعدى الأشهر الاربعة و لذلك هو بحاجة الى ميدان يصنع فيه نصرا سريعا دون كلفة يدفعها من دماء جنوده .
وفي مسار البحث عن مثل هذا الميدان الذي يصنع فيه الانتصار السريع غير المكلف يرى ترامب بتأثير من بعض مستشاريه ان لبنان حيث يوجد المقاومة التي يقودها ويمارسها حزب الله هو الميدان الأفضل والاسهل الذي يحقق الانتصار المبتغى عبر خنق هذا الحزب وتجريده من سلاحه ما يطمئن إسرائيل ويسجل نصرا عجز من سبقه عن تحقيقه.
اختار ترامب لبنان لصنع هذا الانتصار بسبب اعتبارات وخصائص تميز كيانه يأتي في طليعتها نظامه الطائفي الواهن الذي يمنع قيام الدولة المتماسكة القوية و يسمح بالحركة الحرة لليد الأجنبية ، مع وجود فئة من اللبنانيين من حملة الجنسية الأميركية او من غير حملتها ، من سياسيين رسميين او غير رسميين ، جاهزين للعمل بإملاءات اميركا الى حد التعبد لها باعتبارها هي الحاكم المطلق للمعمورة دون ان يلتفتوا الى حقيقة اميركا اليوم و ضعفها، كما ان فيه أي في لبنان أيضا جمعيات و أحزاب و منظمات أهلية (NGO ) تنصاع للمخابرات الاجنبية التي تديرها او تنسق معها المخابرات الأميركية .
لأجل ذلك اطلقت اميركا في سياق حربها المتجددة الوجوه على محور المقاومة بعنوان " ممارسة الضغوط القصوى للتسبب بالانهيار الشامل " و اختارت لبنان ليكون مكانا لصنع الانتصار الحاجب للخيبات و الخسائر التي تكبدتها وجاءت مؤخرا بقانون قيصر الاجرامي تحت عنوان دعم المدنيين السوريين في وجه النظام و اذ بالقانون سيفا يسلط على رقاب السوريين دون استثناء و على رقاب غير السوريين ممن يريدون مد يد العون لهم .و كان للبنان من عقوبات اميركا في قانون قيصر و سواه حصة الأسد بسبب وضعه الجغرافي و ارتباطه بسورية باعتبارها متنفسه الوحيد الذي اذا اغلق اختنق ...فخطة اميركا لأحداث النصر السريع في لبنان هي بكل بساطة حصار يقود الى انهيار و تجويع و فتنة تقود الى حرب أهلية تستدرج حربا إسرائيلية تكون الفتنة و الحرب الاهلية المعبر الالزامي لها .
ولأجل النجاح في خطتها ، اوفدت اميركا مؤخرا الى لبنان موظفة بعنوان سفير ولكنها في الحقيقة هي من طبيعة تختلف كليا عن طبيعة السفراء وسلوكهم، انها السفيرة الأميركية الجديدة في لبنان التي تتصرف بشكل منفصل كليا عن مهام السفير الاعتيادية ومن يتابع حركتها في لبنان ويطلع على مواقفها وتصريحاتها يرى نفسه امام حاكم عسكري او رئيس جهاز استخبارات في بلد محتل، يمارس الحكم والسلطة دون ان يكون له أي علاقة بالدبلوماسية او بما تفرضه قواعد القانون الدولي و اتفاقية فيينا من ضوابط لتصرفات السفراء في البلد المضيف.
فالسفيرة الأميركية في لبنان تنفذ بكل وقاحة خطة أميركية محكمة تقوم على احداث فتنة في لبنان عبر تأليب اللبنانيين على المقاومة وسلاحها ودفعهم الى الاقتتال الداخلي الذي يحاصر المقاومة من باب تجويعهم ودفع البلاد الى الانهيار الاقتصادي الذي تروج لهه عبر مسؤوليها واعلامها وبعد ذلك تحميل المقاومة المسؤولية عن كل ما يحل ببلدهم بيد أميركية في أكبر عملية بهتان وتلفيق وتزوير.
فأميركا تخير اللبنانيين وبكل صلافة بين استسلام وتخلي عن الحقوق عبر اخراج المقاومة التي تدافع عنهم من صفوفهم ومن حكومتهم او الموت جوعا الى حد التلويح أيضا بالقضاء على فكرة وجود دولة في لبنان كما هو الحال في ليبيا الذي صنعت مأساتها ايدي العرب والأطلسي.
في ظل هذا العدوان جاء القرار القضائي الذي أصدره قاضي الأمور المستعجلة في صور محمد مازح متصديا لنشر الفتنة ومتوجها لوسائل الاعلام بالكف عنن ترويج ما تلفقه السفيرة الأميركية وهو قرار يندرج في سياق الدفاع عن لبنان و امنه عبر منع الفتنة و منع التحريض عليها ومنع إذكاء الصراعات الداخلية انه قرار يأتي بمثابة ضوء احمر يشعله لبنان بوجه سفيرة تخرق القواعد و تستبيح السلم الأهلي فيه ، و من غير مناقشة في مشروعية القرار و قانونيته و مدى انطباقه على القواعد و الأصول الناظمة لصلاحيات قاضي الأمور المستعجلة فلهذا الامر مكان اخر ، فاننا كنا نتمنى ان يكون القرار فرصة لإبلاغ السفيرة ان عملها الفتنوي مرفوض لأنه ينتهك مصالح لبنان الامنية وان عليها ان تتوقف عنه ، لا ان يجعل البعض من القرار فرصة للانقضاض على الوطنيين و التقرب ممن يريد بلبنان شرا ...فالفتنة تبدا بكلمة و منعها يبدا بحظر الدعوة اليها .