بشكل مُفاجئ وسريع حضر مَوضوع تغيير الحُكومة، وبشكل مُفاجئ وسريع أيضًا سُحب من التداول. ويُمكن القول إنّ صفحة إستبدال الحُكومة طُويت-أقلّه مرحليًا، بسبب عدم وُجود البديل من جهة، وبسبب الغطاء السياسي والمَعنوي الذي أمّنه "حزب الله" لها من خلف الكواليس. فما الذي ظهّرته إتصالات الأيّام القليلة الماضية من وقائع؟.
أوّلاً: عدم نضوج الخيار البديل الذي كانت تُشجّعه بعض الجهات في قوى "8 آذار" السابقة، لجهة إعادة مدّ الجُسور مع رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، على أن يعمل كلّ من رئيس مجلس النواب نبيه برّي ونائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي على تسويق الأمر داخليًا، في حال مُوافقة الحريري. لكنّ رئيس "التيّار الأزرق" رفض الأمر، لأسباب عدّة، أبرزها أنّه لم يحصل على عرض فعلي وجدّي أوّلاً، ولأنّه لم يتراجع عن الشروط التي كان قد وضعها عشيّة إسقاط تكليفه قُبيل ولادة حُكومة الدُكتور حسان دياب، ولأنّه لا يريد العودة إلى السُلطة بأيّ ثمن في ظلّ هذه الظُروف الصعبة، فيسقط بشكل مريع مرّة جديدة، علمًا أنّ خُصومته المُستجدّة مع "التيّار الوطني الحُرّ" أعادت تعويمه جزئيًا في بيئته! في المُقابل، لم يُظهر لا "حزب الله" ولا "التيّار الوطني الحُرّ"، أيّ حماسة لهذا الخيار، مَا أدّى إلى إجهاضه في مهده.
ثانيًا: إصرار "حزب الله" على مُقاومة الضُغوط التي يتعرّض لها لبنان، مهما بلغت الصُعوبات والمشقّات، وعلى تطبيق مبدأ المُواجهة الذي تعتمده جهات عدّة في الخط المُناهض للإدارة الأميركيّة، من إيران إلى فنزويلا. ويبذل "الحزب" حاليًا جُهودًا كبيرة، لتحويل خيار "الإتجاه شرقًا" إلى واقع ملموس، لكنّ الإتصالات التي حصلت خلال الأيّام الماضية مع كل من الصين وإيران والعراق، واللقاءات التي عقدها وزراء الطاقة والصناعة والزراعة والسياحة والنقل والبيئة وغيرهم، لم تُسفر عن أيّ نتائج إيجابيّة ملموسة بعد، لأسباب مُختلفة، يُضاف إليها العوائق التي أوجدها "قانون قيصر" المَفروض على سوريا. يُذكر أنّ العُقوبات الأميركيّة على سوريا، تُشكّل مُشكلة كبرى للبنان، لأنّها تحول دون تصدير مُنتجاته المَحدودة أصلاً، إلى الخارج عن طريق البرّ، علمًا أنّ خيارات التصدير الأخرى، لا سيّما عن طريق الجوّ، مُكلفة، وتُفقد البضائع اللبنانيّة قُدرتها على المنافسة. وعلى الرغم من العوائق والصُعوبات، يُصرّ "الحزب" على مُجاراة الخيار الإيراني الحالي بمُبادلة السلع بدل الدفع بالدولار، وعلى تطبيق التجربة العراقيّة التي إعتمدت خلال مرحلة الحصار الأميركي في حقبة التسعينات، والتي كانت بعنوان "النفط في مُقابل الغذاء"، لكن بصورة مَعكوسة، أي أنّ يتمّ مثلاً تصدير مُنتجات زراعيّة لبنانية مُقابل الحُصول على نفط عراقي، إلخ.
ثالثًا: "التيار الوطني الحُرّ" يُحاول التمايز قد المُستطاع في مَواقفه، حيث أنّه لا يُريد عودة الحريري، ولكنّه يخشى تحمّل تبعات الذهاب بعيدًا في خيار مُواجهة الضُغوط الأميركيّة. لذلك، هو يدعم خيار بقاء الحُكومة الحالية، لكنّه يضغط لتسريع وتيرة عملها، وللبدء بتسجيل نتائج إيجابيّة، لأنّ إرتدادات تخبّطها وفشلها تنعكس مُباشرة على العهد الرئاسي ككلّ. وبالتالي يضغط "التيّار" على الحُكومة، لكنّه يطلب في الوقت عينه منحها فرصة زمنيّة مَعقولة، وتركيزه حاليًا هو على الشروع في تنفيذ الإصلاحات، حتى يقرّها المجلس النيابي في مرحلة لاحقة، وعلى توحيد الأرقام الإقتصادية والمالية، تمهيدًا لتسريع عمليّة التفاوض المُجمّدة حاليًا مع مُمثّلي صندوق النقد الدَولي. ويُطالب "التيّار" أيضًا بتدخّل مصرف لبنان بشكل فعّال، لضبط إرتفاع سعر صرف الدولار، وهو يُصر على تنفيذ التدقيق المالي المحاسبي والجنائي في مصرف لبنان، من دون التمسّك بشركة "كرول".
رابعًا: رئيس الحُكومة الحاليّة أصبح مُنحازًا أكثر فأكثر، وبشكل علني، إلى الفريق السياسي الذي أوصله إلى الحُكم، والذي يدعمه حاليًا للبقاء في السُلطة. وهذا ما تظهّر من خلال مَواقف الحكومة ورئيسها، ومن خلال طبيعة إجتماعات وإتصالات وزراء الحكومة وإتجاهاتها. ويُمكن تلمّس المَنحى التصاعدي لإبتعاد الحُكومة عن الموقع الحيادي والمُستقلّ الذي كانت حاولت تلبّسه عند تشكيلها، لتُصبح أقرب إلى محور "المُقاومة والمُمانعة" من أيّ وقت مضى. وهذا التموضع يجعلها طرفًا بمواجهة قوى داخليّة وخارجيّة عدّة، بحيث صارت الشرعيّة اللبنانيّة كلّها عرضة للحصار.
في الختام، إنّ لبنان صَار عمليًا في خضمّ الصراع الإقليمي-الدولي، وفي خضم صراع "محور المُقاومة والمُمانعة" بقيادة إيران، مع الإدارة الأميركيّة ومع مجموعة واسعة من الدول العربية والغربيّة. وإصرار "حزب الله" على الذهاب للنهاية في هذه المُواجهة، بالتزامن مع إكتفاء "التيّار الوطني الحُرّ" بمُحاولة التمايز في بعض المواقف، قد يُحوّل لبنان إلى مثال جديد للدول التي إنهار إقتصادها وعملتها الوطنيّة، والتي أرهق كلّ من الفقر والعوز والبطالة شُعوبها، من إيران إلى فنزويلا، مُرورًا بسوريا واليمن وحُكومة غزّة، إلخ...