فرضت الصين نفسها عملاقاً هائلاً، ومارداً عالمياً خلال العقود القليلة الماضية، من النواحي كافة الاقتصادية والمالية والسياسية والعسكرية والفكرية، وهو امر لا يختلف اثنان عليه، اياً تكن المواقف من الخط الصيني المتّبع. واستغلت هذه الدولة الآسيوية كل مواردها البشرية والفكرية لتحصّن نفسها ضد عوامل قد يستغلها الآخرون ضدها، وقد اثبتت نجاحها حيث وقفت في وجه الرئيس الاميركي دونالد ترامب وامبراطوريته الاقتصادية التي بناها خلال السنوات الاربع الفائتة، ولم تخضع لعقوباته وقراراته ضدها في الفترة الماضية. لذلك، عندما راهن قسم من اللبنانيين على الصين كسبيل لخلاص البلد وكبديل عن طريق الغرب المسدودة حالياً، بدا الامر صائباً خصوصاً وانها تتمتع بالقدرة اللازمة لفك الحصار المفروض على لبنان واعادته الى طريق النهوض مجدداً.
ليس من الصعب على الصين عملياً، الدخول في مثل هذا الرهان وكسبه، ولكن بغض النظر عن التعقيدات السّياسية والدبلوماسيّة التي تحيط بلبنان منذ نشوئه، والتجذّر الغربي فيه، وما يمكن ان ينتج من تداعيات على احتمال التخلي عن الغرب -ولو مرحلياً- لركوب قطار الشرق، تبرز معطيات عدة تجعل الصينيين اكثر تردداً وقلقاً من الدخول في المغامرة اللبنانية. لن تقلق الصين بطبيعة الحال، من اسرائيل اذا ما قررت وضع قدم لها في لبنان حتى ولو كانت العلاقات معها طيبة وجيدة، ولكنها في المقابل، ستكون اكثر حرصاً على العلاقة القائمة مع دول الغرب بما فيها الولايات المتحدة الاميركية والقارة الاوروبية، التي ستعتبر الدخول الصيني الى لبنان بمثابة "انتزاع" لنفوذ القارة العجوز وغطائها السياسي والدبلوماسي في بلد تعتبره اكثر من اساسي في المنطقة، نظراً الى تكوينه الديموغرافي وتشعّب الايادي الخارجية فيه، التي لا تفوّت مناسبة الا وتتدخل في كل شاردة وواردة تحصل. وبناء عليه، لا تدخل في حسابات الصين ايّ فكرة لقيام نزاع غير مبرر مع هذه الدول، وهي الحريصة على ابقاء "المسافات الآمنة" بينها وبين الآخرين، وما حصل في سوريا في السنوات الماضية خير دليل على ذلك، عندما تركت الساحة للدب الروسي واكتفت بالعمل الدبلوماسي.
وفي مقابل هذا القلق السياسي، يبرز قلق عملي آخر يتعلق باللبنانيين انفسهم، فالصين او اي دولة اخرى، ليست مؤسّسة خيرية وانسانية، وغير مستعدة للعمل في اي بلد دون الحصول على مردود، مع العلم ان لبنان مهم لهذه الدولة الكبرى لاقامة مشروع "طريق الحرير" الذي تحلم به منذ اجيال. واذا كان النفوذ السياسي غير قائم في الحسابات، فإن المردود المالي يشوبه خطر حقيقي بالنسبة الى المستثمرين والشركات الصينية، ومع يقينها بأن الازمة المالية والاقتصادية في لبنان مردّها بنسبة كبيرة جداً الى قرارات سياسية خارجية، فإن النسبة القليلة المتمثلة بمسؤولية اللبنانيين عن الوصول الى هذا الوضع، تبقى في اذهان الصين التي يهمها البحث عن ضمانات واقعية لقاء الاعمال التي ستلتزم القيام بها. هنا، يأتي دور الحكومة والمسؤولين الرسميين اللبنانيين في تأمين هذه الضمانات وطمأنة العملاق الآسيوي الى ان ما سيقوم به لن يكون "هبة" او استثماراً خاسراً، وسيكون من الضروري اشراك القطاع الخاص ايضاً في هذا المجال لتكون الثقة بلبنان اكبر، ويظهر ان هناك بالفعل لا بالقول، قرارا موحداً بإنقاذ البلد مهما كلف الامر، وقد يشكل التعاون مع العراق في المسألة النفطية مقياساً مهماً لابراز الجدية اللبنانية في هذا المجال.
حتى الآن، ليس هناك ما يبشّر بحماسة لبنانية من هذا النوع لفتح الابواب امام الصينيين، وهناك من لا يريد التخلّي عن ارباحه وعلاقاته ونفوذه ان كان لناحية الاموال او الطموح السياسي، وهذا الامر يساهم بشكل كبير في زيادة تردّد الصينيين بالعمل في لبنان، علماً ان المجالات التي تتفوّق فيها الصين (الطاقة، بناء البنى التحتية، الانماء...) هي حاجة ملحّة ويمكن ان تبصر النور في فترة زمنية قياسية.
على الصين درس حسابات الربح والخسارة اذا ما قررت وضع يدها بيد لبنان، ولكن على اللبنانيين ان يظهروا مدى رغبتهم في انقاذ بلدهم والخروج من هذه الدوّامة، وان يثبتوا ان مصيرهم ومصير وطنهم يستحق منهم وضع مصالحهم قبل مصلحة الزعيم والمسؤول، ولو لمرة واحدة.