مع دخول الاقتصاد اللبناني رسميّاً نفق الركود التضخّمي، تبادَر إلى مسامعنا على مدى الأشهر الماضية، الكثير من التساؤلات حول مدى انطباق السيناريو الفنزويلي على الاقتصاد اللبناني. في الواقع، يصحّ القول بأنّ جذور الأزمة الاقتصادية في كلا البلدين متشابهة إلى حدّ كبير، لا سيّما على صعيد وتيرة الأزمات السياسية في كلّ من فنزويلا ولبنان، أو على صعيد افتقار البلدين إلى التنوّع الاقتصادي، أم لجهة تفشي ظاهرة الفساد في إدارات الدولتين، ناهيك عن لجوء حكومات فنزويلا ولبنان إلى الاستدانة المفرطة لسنوات طويلة، ما أدّى بطبيعة الحال إلى أزمة مالية ونقدية حادّة في فنزويلا في العام 2018، من تضخّم مفرط في الأسعار بلغ مستويات قياسية لا يستوعبها العقل، قُدّرت بحوالي 35,000%، إلى انهيار لافت في قيمة البوليفار مقابل الدولار من 10 بوليفار للدولار الواحد في شباط 2018 إلى 248 ألف بوليفار للدولار في آب 2018. وهو ما بدأنا نشهده مؤخراً في لبنان مع معدّل تضخّم في الأسعار تخطّى عتبة الـ500% مع بداية شهر تموز وفق الخبير الاقتصادي العالمي «ستيف هانكي»، وذلك بالتوازي مع انخفاض لافت في سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار في السوق الموازية إلى مستويات غير مسبوقة لامست عتبة الـ 10,000 ليرة لبنانية للدولار الأميركي الواحد خلال الأسبوع المنصرم.
أولاً، على صعيد وتيرة الأزمات السياسية الداخلية، شهدت فنزويلا خلال العقد المنصرم أزمات سياسية خطيرة زعزعت الاستقرار الداخلي في البلاد لا سيّما في أعقاب الحصار الأميركي المُحكم، مروراً بالصراع المحتدم على السلطة والذي ترافق مع احتجاجات شعبية واسعة النطاق عقب تنصيب رئيس البرلمان «خوان غوايدو» نفسه رئيساً مؤقتاً للبلاد، في كانون الثاني 2019، مدعوماً من المعارضة التي تسيطر على الجمعية الوطنية (أيّ البرلمان)، في ردّ منها على تأدية الرئيس الفنزويلي الحالي «نيكولاس مادورو» اليمين الدستورية لولاية رئاسية ثانية، بحجّة تزوير الانتخابات الرئاسية. ما شهدته فنزويلا من حصار وخضّات سياسية واجتماعية حادّة يتقاطع إلى حدّ كبير مع ما شهده لبنان خلال العقدين المنصرمين، بحيث دخل الأخير منذ العام 2004 وحتى يومنا هذا نفقاً قاتماً من الانقسامات السياسية الحادّة والخضّات الأمنية من تفجيرات واغتيالات، ناهيك عن شلل مُحكم خيّم على معظم أطياف مؤسسات الدولة، بدءاً بأول فراغ رئاسي بين عامي 2007 و2008، مروراً بالفراغ الحكومي بين حزيران 2013 وشباط 2014، وبثاني فراغ رئاسي بين أيّار 2014 وتشرين الأول 2016، وانتهاءً بالاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في 17 تشرين الأول المنصرم.
ثانياً، على صعيد الافتقار إلى التنوّع الاقتصادي، يُعدّ النفط من أهم صادرات فنزويلا، خاصةً مع بداية القرن الماضي وصولاً إلى العام 2015، إذ كانت تُقدّر نسبة عائدات النفط بحوالي 95% من إجمالي عائدات الدولة، ولكن مع انهيار سعر برميل النفط من ما يقارب 100 دولار للبرميل الواحد في العام 2014 إلى أقلّ من 50 دولار في العام 2016، أصبحت العائدات لا تتجاوز 18% من مجموع الصادرات. مع الإشارة إلى أنّ فنزويلا تحتاج في الأوضاع العادية إلى أسعار نفط تتجاوز 30 دولاراً للبرميل، لكي تجدي مواصلة الحفر ودفع رسوم الامتياز. ويُعزى ذلك إلى أنّ النفط الفنزويلي وعلى عكس نفط الشرق الأوسط، يقع معظمه على عمق كبير في باطن الأرض وفي المياه الاقليمية تحت البحر، ما يستلزم تقنيات مُتقدّمة لاستخراجه. لكن شركات النفط الغربية، ومنذ أن أقدم الرئيس الراحل «هيوغو تشافير» على تأميم صناعة النفط وتوزيع عائداتها على الفقراء، نفّذت مقاطعة شاملة لفنزويلا وامتنعت عن تزويدها بتقنيات صيانة آبار النفط، وبالتالي لم يعد هناك من جدوى لامتلاك فنزويلا أكبر احتياطي نفط في العالم (مقدّر بحوالي 304 مليارات برميل، أمام السعودية مع احتياطي مقدّر بحوالي 298 مليار برميل في نهاية العام 2019) ما دامت غير قادرة على استخراجه.
من جهته، يفتقر اقتصاد لبنان بدوره إلى التنوّع الاقتصادي بحيث يستحوذ فيه القطاع الثالث، أو ما يُعرف بقطاع الخدمات، على ما نسبته 82% من حجم الاقتصاد. وهو يشمل بشكل خاص قطاع السياحة من مطاعم وفنادق وخدمات سياحية أخرى، إضافةً إلى الخدمات المالية والعقارية والتعليمية والصحيّة، مع الإشارة إلى أنّ قطاع الخدمات يعتمد بشكل جوهري على الاستقرار السياسي والأمني في البلاد وعلى عامل الثقة بشكل عام، وهو ما افتقده لبنان فعلياً خلال العقد المنصرم. في هذا الإطار، يجدر التذكير بأنّ التطورات الإقليمية التي اندلعت مع بداية العام 2011 قد أثّرت سلباً على قطاع السياحة وعلى حركة الزوار القادمين من الدول العربية عبر البرّ السوري والذين إمّا غيّروا وسائل سفرهم أو حتى امتنعوا عن المجيء إلى لبنان واختاروا مقاصد أخرى، ناهيك عن حظر رعايا دول الخليج عن السفر إلى لبنان في ما بعد بسبب الاضطرابات الأمنية والسياسية التي طبعت تلك المرحلة آنذاك. ليتراجع عدد السياح الإجمالي من مستوى قياسي بلغ مليوني سائح في العام 2010 إلى أقلّ من 1.2 مليون سائح خلال سنوات الأزمة السورية، ولتنخفض معه الإيرادات السياحية من حوالي 7 مليارات دولار في العام 2010 إلى أقلّ من 3 مليارات دولار خلال السنوات اللاحقة وفق تقديرات رسميّة.
ثالثاً، عانت بنية الاقتصاد الفنزويلي من فساد مُزمن أضعف قدرة الاقتصاد على مقاومة الضغوط الأميركية القاسية خلال العقد المنصرم. ورغم كونها نظريّاً ثريّة بموارد النفط، إلا أنّ ثرواتها تركّزت في أيدي الأطراف الموالية للغرب، في حين أنّ السكان الأصليين، خاصّة الأقليّة العرقيّة الريفيّة، فقد تمّ إقصاؤهم من تقاسم ثروة البلاد النفطيّة. وقد سعى تشافيز لإعادة تركيز اقتصاد مختلط، مستخدماً موارد حكومته، ولكن ما عجز عن تنفيذه هو القضاء على الاختلاس والعمولات على حساب موارد القطاع النفطيّ، كما عجز عن كبح هروب الرساميل إلى الخارج. في هذا الإطار، احتلّت فنزويلا مرتبة متقدّمة ضمن الدول «الأكثر فساداً» عالمياً، مع المرتبة 173 من بين 198 بلداً حول العالم وفق مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية للعام 2019، والذي يقيس مقدار الفساد السائد بين المسؤولين الحكوميين والسياسيين على حدّ سواء. أما في لبنان، فالفساد المستشري في كافة مفاصله والهدر القابض على أنفاس ماليّته العامّة وتركُّز الثروات في أيدي بعض النافذين، قوّض كافّة مقوّمات الصمود، ليحتلّ لبنان المرتبة 137 عالمياً وفق مؤشر مدركات الفساد، مع درجة رسوب (100/28) لا يزال يستحوذ عليها للعام السابع على التوالي، وذلك على الرغم من البرامج الاصلاحية التي تعهّدت معظم الأطراف السياسية بتنفيذها من مكافحة للفساد وتطوير للنظام الإداري، إلا أنّ هذه البرامج لم تُترجم فعلياً، الأمر الذي انعكس سلباً على الواقع السياسي والاقتصادي والمالي والنقدي في البلاد. عليه، فقد ساهم الهدر العشوائي في المالية العامة في مراكمة العجوزات في مالية الدولة خلال العقد المنصرم (مع عجز سنوي يُقدّر بحوالي 4 مليارات دولار في المتوسّط)، دون حسيب أو رقيب، لا سيّما في ظلّ غيابٍ مُستغرب لأيّ مبادرات تقشفية في هيكلية الإنفاق العام، وذلك بالترافق مع تهرّب ضريبي ملحوظ يُقدّر بحوالي 5 مليارات دولار سنوياً، وهو متأتٍّ بشكل خاص عن التهرّب من ضريبة الدخل والضريبة على القيمة المضافة والرسوم العقارية والجمركية وفواتير الكهرباء.
رابعاً، لجأت فنزويلا إلى الاستدانة المفرطة خلال سنوات ما قبل الأزمة، بحيث اقترضت الحكومة الفنزويلية الكثير من الأموال، مطمئنةً للمداخيل الهائلة من بيع النفط، إنما ومع تراجع أسعار النفط بدءاً من العام 2015، لم يعُد لديها ما يكفي للإنفاق على برامج الاقتراض وتسديد ديونها، فارتفع العجز المالي العام في فنزويلا بشكل ملحوظ منذ العام 2010 ليصل إلى 30% من الناتج في العام 2018، في حين وصلت نسبة المديونية إلى 180% من الناتج خلال تلك الفترة، أي ما يقارب نسبة المديونية في لبنان اليوم والذي لجأ بدوره إلى الاستدانة خلال العقدين المنصرمين في ظلّ غياب لأيّ مبادرات إصلاحية جديّة لإرساء سيناريو الهبوط الآمن في نسب المديونية، ليرتفع الدين العام الإجمالي في لبنان من 4 مليارات دولار في نهاية العام 1993 إلى ما يناهز 93 مليار دولار اليوم. في المقابل، ومن أجل تمويل عجوزاتها المالية لجأت فنزويلا إلى طبع الكثير من الأوراق النقدية، لتنهار بذلك قيمة البوليفار مقابل الدولار، ممّا زاد من نسبة التضخم بشكل ملحوظ، مع دخول فنزويلا على عامها الثامن من الركود التضخمي. وهو سيناريو شبيه إلى حدّ ما بما بدأ يحصل اليوم في لبنان مع لجوء المصرف المركزي إلى ضخّ كميّات كبيرة من النقود بالليرة اللبنانية، وهو ما تجلّى فعلياً بالارتفاع اللافت في كتلة النقد المتداول بالليرة والمقدّرة بحوالي 12 ألف مليار ليرة منذ شهر تشرين الأول المنصرم (أيّ ما يعادل 8 مليارات دولار وفق سعر الصرف الرسمي)، مع الإشارة إلى أنّ لبنان لا يزال في بداية الأزمة وأنّ الأرقام ما زالت قابلة للاحتواء نسبياً إذا صدقت نوايا الإصلاح.
في الختام، لا شكّ بأننا نشهد اليوم حصاراً اقتصادياً وسياسياً خانقاً، وفي حال هبّت رياح أيّ تسوية سياسية إقليمية، قد نشهد انفراجاً اقتصادياً يتأتّى عن دخول رساميل بالعملات الأجنبية على شكل «مساعدات» من شأنها أن تنعش الاقتصاد اللبناني المنتكس. غير أنّ المشكلة الحقيقية تكمن في مكان آخر، فإذا سلّمنا جدلاً بأنّ الانفراج السياسي والاقتصادي آتٍ، من المتوقع أن يشهد لبنان في ما بعد أزمات اقتصادية وانهيارات مالية جديدة، وحتى على أسوأ، لأننا وصلنا اليوم إلى مرحلة تفرض علينا الاعتراف بأننا أمام خللٍ جدّي يرتبط بأسس إدارة الدولة مع انعدام تامّ للثقة بأطر الحوكمة الهشّة والقائمة منذ ما يقارب 40 عاماً.
علينا أن نعترف اليوم بأنّ قلب اقتصادنا الريعي لم يعد قادراً على النبض سوى على آلات التنفس الاصطناعي. علينا أن نعترف اليوم بأنّ نظامنا الطائفي البغيض والقائم على الفساد والهدر والمحاصصات قد اهترأ بعدما نهبَ ثروات لبنان وسينهب ثرواته في المستقبل وبالتالي لم تعد تنفع معه اليوم المحاولات الإنقاذية التقليدية من هبات أو قروض. علينا أن نعترف اليوم بأنّ نظامنا السياسي الاقتصادي القائم حالياً في لبنان والذي يعيش على التسوّل لم يعد قادراً على الاستفاقة من الكوما ما لم نحقّق صدمة إيجابية تُخرج اقتصادنا الوطني من موته السريري. نحن بحاجة اليوم، قبل الغد، إلى تغيير جذري ودراماتيكي في جوهر نظامنا السياسي ينفض الغبار عن مفاصل الاقتصاد والدولة، نحو نظام مدني جديد بعقلية وروحية جديدة، لأنّ الضرب في الميت حرام. من هنا، وفي ظلّ هذا التلكّؤ المعيب والاستخفاف المذلّ بلقمة عيشنا، فإنّ جرعات «المورفين» لن تعيدنا، للأسف، إلى وضعنا الطبيعي، فالجوع قد يُفقد العقل المخدَّر بالشعارات، صوابه، في حين أنّ الذلّ قد يُفرِغ النّفوس المُتخمة بالوعود الكاذبة، من مضمونها. فما بالكم إذا اجتمع الفقر مع الذلّ على طبق واحد وعليهما رشّة تجويع مُمنهج؟