كانت الشرارة الأولى للحرب الكونية التي استهدفت سوري تنطلق من درعا، وألبست الحراكات تلك يومها لباس الثورة التي تنفجر ضد الواقع السياسي والمعيشي حتى والأمني والاستراتيجي للدولة السورية. واستمرت درعا ومنطقتها في موقع مميز على خريطة الحراكات الميدانية خاصة بعد ان تحول ما اسمي ثورة إلى حرب تخوضها الجماعات المسلحة والإرهابية التي تقاطرت إلى سورية من أربع رياح الأرض في سياق خطة محكمة وضعت ونفذت بقيادة أميركية وانتظام من دول عربية وإقليمية وأوروبية تسعى جميعها إلى أسقاط سورية ونظامها، وإعادة تركيبها على أساس طائفي عرقي ومذهبي واهن يكون التقسيم فيه جوهر الحل وتكون التبعية لأميركا والانصياع لمقتضيات المشروع الصهيواميركي سمته الرئيسية.
بيد ان الحرب الكونية التي استهدفت سورية و نفذت فيها بخطط متتابعة و استراتيجيات متتالية ، لم تفلح في تحقيق أهدافها ـ رغم أنها توصلت في العام 2015 إلى السيطرة على اكثر من 65 إلى 70 % من مساحة سورية ، لكن الحكومة السورية و بدعم من حلفائها في محور المقاومة و روسيا ، اطلقت في العام 2015 خطة استعادة السيطرة على ما خرج من يدها و عاث فيه الإرهابيون فسادا و انزلوا به الدمار برعاية أميركية اروبية تركية عربية مستفيدة مما اسمي تحالف دولي تحت اسم ملفق هو "أصدقاء سورية " و هو تحالف مارس ابشع أنواع السياسات العدوانية ضد سورية شعبا و أرضا و نظاما و ثروات .
وضعت الخطة السورية لاستعادة المناطق إلى كنف الدولة وقامت على ركنيين رئيسين، العفو والمصالحة أولا، فان فشلت المحاولة يكون الثاني متمثلا بالعمل العسكري الذي يخرج الإرهابيين من الأرض التي يسيطرون عليها ويحرر المواطنين السورين من قبضتهم الإجرامية. ووضعت القيادة السورية خططا تنفيذية مناسبة لكل من هذين المسارين، وسجل المسار الأول أي المسار التصالحي نجاحا منقطع النظير وحقق تحرير مناطق شاسعة في سورية من غير قتال. ونجح مع المسار القتالي في تحرير بسط سلطة الدولة على أكثر من 80% من الأرض السورية الآن.
بيد ان المصالحات التي نفذت، كانت محكومة بقواعد وضعتها الدولة تراعي بحزم المصلحة الوطنية امننا وانتظاما للحياة العامة في المناطق التي تجري فيها المصالحة، وعليه كانت تؤدي المصالحة إلى العفو عن كل مسلح أراد ان يعود إلى حياته المدنية العادية في كنف الدولة مواطنا عاديا، ويتخلى عن سلاحه وارتباطه ويخضع لأحكام القانون كافة منذ لحظة دخول المصالحة حيز التنفيذ، أما من لا يرتضي ذلك فيخرج مع سلاحه من المنطقة حتى تتمكن الدولة عبر القوى العسكرية و الأمنية ودون شريك بسط الأمن وحماية السكان وحقوقهم ونشر سيادة الدولة كليا على المنطقة المساعدة.
لكن المصالحة في درعا لم تراع مبادئ المصالحة التي اعتمدت في بقية المناطق ، حيث انه و بتدخل مباشر من الحليف الروسي و من اجل تسهيل المهمة التي هي على وجه من التعقيد و الخطر ، صيغت لتلك المنطقة منظومة قواعد و أحكام أعطت المسلحين مكاسب لم ينلها احد سواهم في المناطق الأخرى في اطار المسار التصالحي ، و كان هذا التساهل بسبب خصوصية درعا و رغبة من الدولة السورية في الإسراع في طي صفحة الخطر الإسرائيلي الأميركي الجاثم في الجنوب و الرامي إلى إقامة كيان انفصالي برعاية إسرائيلية مباشرة تذكر بما صنعت إسرائيل في لبنان و أقامت "المنطقة الأمنية" و جندت ما اسمته "جيش لبنان الجنوبي" ليكون قناعها لاستمرار احتلالها للمنطقة .
وهكذا فان خطر الاحتلال والانفصال الذي ترعاه إسرائيل فرض المرونة في تطبيق قواعد المصالحة في درعا ومنطقتها، ولذا اعتمدت للمنطقة قواعد خاصة قضت بقبول من يرغب من المسلحين في البقاء في درعا مع سلاحهم وانتظام من يرغب أيضا منهم في الفيلق الخامس الذي أسسته الدولة في السنوات الأخيرة ليكون جزءا من الجيش العربي السوري ذو خصوصية معينة، وهكذا شكل لواء خاص بمسلحي درعا الحق بهذا الفيلق تحت تسمية اللواء الثامن الذي انتظم فراديا فيه ما بين 1500 إلى 1700 مسلح.
وكانت الدولة ومعها روسيا التي تولي عناية خاصة للفليق الخامس تنظيما وتسليحا حتى وإدارة عمليات، تعول على ترويض هؤلاء المسلحين سواء في الفيلق او في إدارات الدولة الأخرى التي دخول اليها وحملهم على التخلي عن ماضيهم الإجرامي بحق الشعب والوطن، والعمل بنفس وطني خالص لا شائبة فيه.
بيد ان كثيرا من المسلحين الذين احتفظوا بسلاحهم في دوائر الدولة او خارجها خيبوا الظن السوري و الروسي بهم و عاد بعضهم إلى ارتكاب الأعمال الإرهابية ضد الجيش العربي السوري ومراكزه المنتشرة في المنطقة كما و ضد المدنيين و راحوا يبدون من التصرفات ما بات ينذر بسقوط التسوية خاصة بعد ان اعلن من تولى قيادة اللواء الثامن في الفيلق الخامس (لواء مسلحي درعا ) اعلن سعيه إلى إقامة "جيش الجنوب السوري " (ما يذكر بجيش لبنان الجنوبي ) و رغبته في إقامة كيان خاص بدرعا و منطقتها مستقلا ذاتيا عن الحكومة المركزية في دمشق . وهنا يطرح سؤالان: الأول لماذا هذا التحرك المناهض للدولة ووحدتها الأن بعد عامين تقريبا من إتمام المصالحة؟ والثاني هل تنجح المحاولة؟
في الإجابة على السؤال الأول نرى ان المصالحة في درعا تعثرت وباتت مهددة بالسقوط للأسباب التالية:
1) واقع المسلحين الذين توزعوا بعد المصالحة بين فئات أربع فئة الوطنيين الجدين بالمصالحة وترك السلاح، وفئة المكابرين المتمسكين بحمل السلاح في صيغة ترعاها روسيا، وفئة معتزلي العمل المسلح كليا والانكفاء وفئة الخلايا النائمة التي لا زالت على ارتباط بالخارج وتتحرك بأوامره وهي مع الفئة الثانية الأخطر على الأمن والاستقرار خاصة بعد ان تحولت الأن من نائمة إلى عاملة فاعلة وشجعت عناصر الفئة الثانية عل التفكير بالانقلاب على المصالحة.
2) تأثير اليد الأجنبية الأميركية الإسرائيلية التي تعمل باستراتيجية "إطالة أمد الصراع" والسير نحو أنشاء الكيانات الانفصالية كما هو حال الكرد في الشمال او السعي التركي في إدلب.
3) الواقع المعيشي الصعب الذي بدا بالحرب وتفاقم بسبب الكورونا وتعاظم مع قانون قيصر وما فرضه من حصار متشدد على سورية.
4) تأخر الحل النهائي للازمة السورية وخشية المسلحين وتعثر تحرير إدلب وشرقي الغرات ما دغدغ مشاعر المسلحين للعودة إلى الميدان ضد الدولة مع الخشية من تطبيق أحكام التجنيد الإجباري بحقهم واضطرارهم إلى قتال رفاقهم بالأمس.
كل هذه العوامل تضافرت معا ودفعت بعض مسلحي الفئة الثانية والرابعة إلى ان تتوق للعودة عن المصالحة واستعادة الوضع الذي كانوا فيه قبلها وحتى السير قدما نحو الاستجابة للسعي الإسرائيلي ضد وحدة سورية واستقرارها ومنع استعادة السيطرة التامة وبسط السيادة على كامل أراضيها؟
أما الإجابة على السؤال الثاني فنرى فيها ان محاولة الانقلاب على المصالحة و إخراج درعا من سيطرة الدولة والعودة إلى العمل بأوامر أميركية إسرائيلية ، أنها محاولة لن تنجح خاصة و ان سورية اليوم لديها القدرة على مواجهة الخطر بما يقتضيه الموقف من عمل او تدابير يبدو أنها وضعت موضع التنفيذ وفقا لخطة علاج مركب أولا من تدابير تنظيمية و امنيه و استخبارية لاحتواء الخطر ثم منع تفاقم الخطر واجتثاثه في مرحلة ثانية عبر العمل بما يلزم امنيا و عسكريا على السواء و هنا نرى ان قرار حل اللواء الثامن و إخراجه من الفيلق الخامس و تحويل من يرغب من عناصره إلى قوات الدفا ع الوطني هو خطوة أولى سيعقبها خطوات اشد أثرا و اكثر فعالية ما يمكننا من القول ان محاولات نشر الفوضى و الإرهاب في درعا لن تنجح و ان الدولة واعية لما يجري كما ان الراي العام الشعبي في المنطقة هو في معظمه متمسك بالدولة ولن يوفر البيئة الحاضنة للإرهابيين الراغبين بالعودة إلى الوراء ..