«نفق مسدود»... عبارة تكاد تتفق عليها كافة الشخصيات السياسية والدبلوماسية المتابعة للشأن اللبناني عن كثب، وإن اختلفت توقعاتها لمستقبل البلد بين مروحة سيناريوهات متدرجة في سلبياتها.
ثمة فكرة اخرى تتفق عليها تلك الشخصيات، وهي أنّ لبنان فوّت الكثير من الفرص حتى بعد 17 تشرين الأول، لاحتواء الوضع، وعلى نحو يثير العجب من سلطة لا تزال تتعامل مع البلاد بمنطق الاستيلاء على ما تدرّه «البقرة الحلوب»، التي باتت عاجزة حتى عن تأمين الحليب لشعبها!
من هنا، يتبيّن أنّ كلّ الخارج تقريباً، قد نفض يده من فرص الإنقاذ، تاركاً البلد لمصيره، وهو يهوي في سقوط نحو هاوية اقتصادية وبطبيعة الحال سياسية.
ثمة أسباب كثيرة تدفع الخارج الى التعامل مع لبنان على نحو ما يعتبرها مرجع سياسي «توجّهات لم تعد خافية على احد لتكرار تجربة ما بعد الانتخابات الفلسطينية عام 2016، وما افرزته من حصار ما زال مستمراً لقطاع غزة، من أجل إسقاط حركة «حماس»، غداة فوزها الانتخابي الذي اثار جنون الأميركيين حينها. الأمر نفسه يحاول الأميركيون، ومعهم بعض العرب، تكراره في لبنان، حيال «حزب الله»، برغم إدراكهم أنّ 15 سنة لحصار غزة لم تؤدِ الى صمود «حماس» فحسب، بل زادت من قدراتها».
لكن التوجّهات الخارجية التي يُستشف منها انقطاع الأمل من لبنان، لا تقتصر على تلك المخططات الشريرة المستمدة من المبدأ البونابرتي القائل «إن لم تكن قادراً على عدوك فاتركه يختنق». فثمة الكثير في الخارج يشعر بخيبة كبرى ازاء عدم قدرة الطبقة السياسية في لبنان على تغيير سلوكها التحاصصي، على نحو يسمح بدعم، ولو خجول، للاقتصاد اللبناني الغارق في الرمال المتحركة.
هذا تماماً ما يجعل حتى الدول التي تتسم مقاربتها للوضع اللبناني بقدر من المرونة، تنفض يدها من ذلك الصداع المزمن، وهو أمر قد ينسحب، ولو بعد حين، على الدول التي صار يُنظر اليها منذ فترة على أنّها البديل الاقتصادي الذي يمكن للبنان الركون اليه، وهو ما بات يصطلح على تسميته «التوجّه شرقاً».
عاجلاً أم آجلاً، سيتضح لهذا «الشرق»، أنّ هذا البلد الصغير الواقع على الضفة الشرقية للبحر المتوسط، فيه من المشاكل ما يتجاوز مساحته بأضعاف مضاعفة، وسيتعامل معه وفق المثل الشعبي القائل «الباب الذي يأتيك منه الريح.. سدو واستريح»، طالما أنّ الطبقة السياسية فيه ما زالت مصرّة على إنكار كل المتغيّرات الداخلية والخارجية، وادارة شؤون البلاد والعباد بمنطق «الشطارة اللبنانية» التي ثبت تحوّلها الى «غباء متأصّل» ليس أقلّ دلالة عليه تلك الهندسات المالية «العبقرية» التي أوصلت الحال الى ما هي عليه اليوم.
ما يثبت نظرية تطور الغباء اللبناني، هو أنّ الطبقة الحاكمة، وبرغم انسداد الافق اقتصادياً، وفقدان السيطرة على كوابح وقف الانهيار، ما زالت بعض مكوناتها تستثمر في الأزمة الاقتصادية، لتحقيق ما لم تستطع تحقيقه في الأزمة السياسية.
ضمن هذا السياق، تأتي الحملة الممنهجة من جانب «المعارضات» لإسقاط حكومة حسان دياب، برغم إدراكها أنّ استقالة الحكومة تعني دخول لبنان مجدداً في دائرة التكليف والتأليف، في مرحلة باتت تداعيات الانهيار المرتقب تُحسب بالأيام، لا بل بالساعات، وهو ما تشي به الكثير من المظاهر الغريبة على يوميات المواطن، سواء في ارتفاع سعر صرف الدولار، الذي بات رصده أول ما يفعله اللبناني حين يصحو صباحاً من كوابيس ليله، وصولاً إلى التسعيرات المتحركة للسلع الاستهلاكية في المتاجر، التي بات الكثير منها خاوياً بالفعل.
تكمن المشكلة بالفعل، في أنّ اللعبة الخطيرة التي تحاول المعارضات وبعض الجهات الداخلية والخارجية المستفيدة من الانهيار، قد باتت مستمدة من الأدوات نفسها التي باتت سلاحاً في يد الولايات المتحدة: حرب الاقتصاد بديلاً لحرب السلاح.
هذا ما يفسّر كل التحرّكات الجارية، إن في كواليس السياسة أو في سوق الصرف او في الشارع، والتي تهدف بشكل خاص الى اسقاط الحكومة، عبر محاولة إشاعة اجواء توحي بأنّ قرار الإسقاط هذا قد اتُخذ بالفعل، وينتظر لحظة الاعلان.
لا يقتصر الأمر هنا على «المعارضات» الواضحة في توجّهاتها، بل يكاد يمتد الى قوى عديدة باتت فاعلة في المشهد اللبناني، وعلى رأسها مجموعات الحراك التي اختلط فيها الحابل بالنابل، وبات من الصعب تمييز مطلبها الاقتصادي عن اجندات السياسة، في إطار ذلك المشهد الممل، الذي باتت تشهده طرقات لبنان من استعادة لعناوين «سالكة وآمنة» السيئة الذكر، والتي تأتي اليوم معدّلة عبر التطبيقات الاخبارية بثنائية «قطع طريق… اعادة فتح طريق»!
المشكلة الأكبر، انّ لعبة الضغط من بوابة إسقاط الحكومة تنخرط فيها قوى يُفترض أنّها محسوبة على الحكومة نفسها، والتي أوحت خلال الأيام القليلة الماضية بأنّها هي نفسها سحبت الغطاء عن حسان دياب.
ومع انّ منسوب مؤشرات التخلّي عن الحكومة الحالية قد تراجع خلال اليومين الماضيين، مع ترويج «فريق سحب الغطاء» بأنّ كل ما سبق من تصريحات بشأن فشل حسان دياب كانت من قبيل جسّ النبض السياسي، الّا أنّ مجرد لجوء بعض هذا الفريق، الى اللعب بالنار على تخوم الانهيار الكبير، يؤكّد حقيقة ما يُتهم به من أنّه مستعد لاحراق البلاد بغية ضمان وصول شخصية معينة الى رئاسة الجمهورية، رغم «تعفف» هذه الشخصية وترفّعها عن هذا الطموح في اطلالتها التلفزيونية المطولة قبل أسبوعين.
كل ما سبق يشي بأنّ الكل يتعامل مع الوضع العام في البلاد بمنطق ما قبل 17 تشرين، من خلال السعي لإعادة رسم خريطة اشتباك جديدة تحقق الاهداف الفئوية نفسها، وربما تقود في مرحلة ما الى اعادة تشكيل التحالفات خدمة للطموحات السياسية، وعلى رأسها طموح جبران باسيل برئاسة الجمهورية، وطموح سعد الحريري (المترفّع ايضاً) في ما خصّ العودة الى رئاسة الحكومة… بذلك قد لا يُفاجأ احدٌ لو أنّ تلاقي الطموحات تلك قد يقود الى تفاهمات وتقاطعات واختلافات جديدة، مع متغيّر أساسي هذه المرة، يضعه الجميع في ادنى سلم الاولويات، والمتمثل في الفوضى الاجتماعية التي بدأ لبنان يشهد فصولها الاكثر تطرّفاً بالفعل.