عندما وقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو في حديقة البيت الأبيض ليعرضا "صفقة القرن" أمام العالم، هل كانا يعلمان أنها خطوة تصحّ فقط للمتاجرة السياسية الموقتة، لا قدرة على تنفيذها بسهولة؟ لم يكن بالإمكان الإعتماد على ما يريده ترامب، ولا على ما يسعى لتحقيقه نتانياهو. لكل منهما حساباته، التي لم تستطع فرض جدول أعمال لا إسرائيلي ولا أميركي على أرض فلسطينية، رغم أن معظم عواصم الشرق الأوسط لا تعارض الصفقة، أو لا قدرة لها على إجهاضها، أو هي لا تتحمّل غضباً لا اميركياً ولا إسرائيلياً جرّاء أي مشاكسة لمشروع أميركي-إسرائيلي، علماً أن الأذرع الأميركية أصبحت ضعيفة في الإقليم.
صحيح أن نتانياهو رفع راية كورونا لإرجاء خطوة الضم، لكن الإسرائيليين قبل غيرهم يدركون حجم الأزمة التي أوقع بها الرئيس الأميركي رئيس حكومتهم. يصف صحافيون إسرائيليون ترامب "بالشخص السطحي الذي لا يتعمّق في التفاصيل الحاسمة جداً، والتي تتعلق بشؤون الولايات المتحدة، هو غير خبير في تفاصيل الصفقة التي طبخها نتانياهو والطاقم الأميركي". تلك الطبخة تقوم على هضم حقوق فلسطينية تحت عنوان "دولتين لشعبين". سبق أن سوّق نتانياهو هذا العنوان لترجمته وفق فهمه للمعادلة. تعتبر الصحافة الإسرائيلية أنه "قصد، حتى لو لم يصرّح بذلك بشكل علني، التقسيم بنسبة 30/ 70، ومنذ ذلك الحين سعى الى تجسيد هذا الاعتراف". لكن الإرباك أصاب رئيس حكومة إسرائيل في كل خطواته المتعلقة بالصفقة والضم والإبتلاع. يمكن الإستناد أيضاً الى ما كتبته صحف اسرائيلية في هذا الشأن: عند خروجه في كانون الثاني الماضي من البيت الابيض، وعد بأنه سيصادق على الخطة الاحد المقبل، في جلسة الحكومة. وبعد ذلك حدّد الأول من تموز يوماً للإعلان عنها، على شاكلة الاعلان عن اقامة إسرائيل في 5 أيار 1948. لكن مرّ تاريخ الأول من تموز من دون أي خطوة ضم ولا صفقة قرن، ليتحول رقص المتطرفين في تل أبيب إلى نحيب ورثاء.
من هنا يبدأ السؤال: ماذا حدث؟.
مرت أشهر خمسة منذ إحتفال واشنطن، وعقد الإسرائيليون ثلاثين جلسة حكومية حضرت فيها خطوة الضم، بينما كانت قواهم توقّع الإتفاق الإئتلافي الذي قيل فيه إن "رئيس الوزراء يمكنه أن يطرح التوافق الذي يتم مع الولايات المتحدة في موضوع بسط السيادة ابتداء من الاول من تموز، لإقرار الحكومة أو الكنيست". قدّمت القوى السياسية الإسرائيلية إقتراحات وخرائط وتعديلات، لكن لم يحصل شيء في الموعد الذي كان محدداً: لا صفقة ولا ضم.
تعددت الأسباب، من طلب التوافق الحكومي الإسرائيلي الكامل أي الإجماع، وهو امر مستحيل، على الأقل لوجود معارضة من قبل حزب "أزرق أبيض"، وصولاً إلى طلب عدم الدخول في أزمة مفتوحة مع السلطة الفلسطينية للحصول لاحقاً على موافقتها، وهو من سابع المستحيلات، لأن الفلسطينيين لا يستطيعون لا التنازل ولا القبول ولا السكوت عن سرقة المزيد من أراضيهم.
إذا كانت إدارة ترامب تخشى من إنعكاس خطوة الضمّ على وضع الشرق الأوسط وتقلق من حصول هزات أمنية وعسكرية، وهي تبحث عن طريق للتخلي عن الإلتزامات التي قدمها ترامب لنتانياهو، فكيف يمكن ان تقبل بحصول حرب إسرائيلية ضد لبنان او سوريا أو أي فريق من قوى "محور المقاومة"؟. توحي المعطيات أن هناك ارتباكاً إسرائيلياً، في وقت تعرّض فيه حلفاء واشنطن لإنتكاسات في اليمن، وليبيا، وشرق الفرات، مقابل تعزيز التحالفات السورية-الروسية، والسورية-الإيرانية، والإيرانية-التركية. كل ذلك يؤكد أن الحلف الاميركي-الإسرائيلي لا يقدر على تنفيذ خطوة مجهولة التداعيات.
لذا، تلجأ تل أبيب لخطوات تعوّض فيها الفشل في ملف صفقة القرن، و خصوصاً بشأن خطوة الضم التي أُجهضت. فهل اتت التفجيرات في إيران في سياق الهروب الإسرائيلي إلى الأمام؟ يوحي كلام الخبراء الإسرائيليين أن هناك "تبادلاً للكمات" بين تل أبيب وطهران، قد تبقى ضمن قواعد الإشتباك، بما لا يتطور الى حرب عسكرية مفتوحة. لكن يمكن ان تتوسع تلك الضربات في سوريا والعراق، وربما في لبنان. فهل يحضّر "محور المقاومة" للكمات إضافية؟ بالتأكيد لن يسكت. لكن لا يبدو أن احداً يريد الحرب كي لا تطيح بخطوط التفاوض غير المباشرة القائمة بين الإيرانيين والاميركيين.