يقودنا الرحيل في قراءة التصريحات والخطب والمقالات والتحليلات سلباً أو إيجاباً في الولايات المتحدة الأمريكية، إلى مراكمة علامات التعجّب والاستفهام التي لا تفكّك مدلول مصطلح العظمة المطبوع في الأذهان حول صورة أمريكا. إنّها بنيان لتجمّعات شعوب وثقافات متنوعة حافظت على قديمها بالرغم من حداثتها المكتسبة. قد تحصل لهذا التنوّع هزّات عنيفة، لكن صلابة عظيمة تجمعه برعاية القوانين والتشريعات والأحزاب التي لا تتغيّر مهما تغيّرت العهود أو تبدّل الرؤساء. أكتب هذا، وفي ذهني خلاصة انتظارات لبنانية وعربيّة وإسلامية ودوليّة واسعة، تربط مستقبل شعوبها ودولها بسؤال بسيط متداول عالميّاً اليوم: هل يجدّد ترامب ولايته أم لا؟
أخرج من هذا السؤآل الرسمي والشعبي، إلى مقولة علمية اعتمدتها، إن لم أكن مخطئاً، هي أن الدولة العظمى تطبع قناعات مواطنيها فتبدو مثلهم خاضعة بأفكارها وتطلعاتها إلى حجمها الجغرافي. إنّها فكرة محشوّة أيضاً بالإسقاطات والأحلام اللا واعية الكثيرة التي تسكن أحلام أبناء الإمبراطوريات المندثرة بهدف إعادة إحيائها من جديد.
فلنبق في أمريكا: الأمريكي لا يفكّر ويتطلّع إلى العالم إلاّ بشكل كبير!
أمريكا هي الدولة العظمى الأكبر في العالم، وأمس، بانت الدولة الأكثر إصابةً بكورونا، وهي الأكثر صلابةً وصاحبة الاسم الأكبر في العالم، وداعمة أكبر المنظمات الدولية التي تعاني بعدما سحبت أيديها منها وآخرها منظمة الصحة العالمية.
أليست أمريكا صاحبة أكبر سيّارات فارهة في العالم، وصاحبة أكبر الجادات، وأكبر الثلاجات في العالم، وفيها سقط أعلى برجين كسقوط برج بابل فتبلبلت الألسن في العالم للمرّة الثانية، بعدما تبلبلت للمرّة الأولى في بلاد ما بين النهرين إذ سعى أهلها إلى الارتقاء للسماء؟
أنبالغ إن قلنا إنّ سقوط البرجين جعل أمريكا صاحبة أكبر مصيبة في العالم، بالرغم من الأساطير والأسرار المدفونة تحت ركام البرجين والتي لم ينسحب دخان حرائقها بعد من الأجواء الدولية؟
كان من الطبيعي أن نعاين هذا الاعتداد الدولي الأمريكي الصاخب، وتلك العناوين الكبرى عبر تطلعات أساتذة الجامعات فيها وباحثيها ومفكّريها، يربطهم حبل صرّة سياسية وكأنّهم أحفاد أو أتباع ليو ستراوس، الصديق الحميم للويس براون صاحب المقاولات السياسية الأمريكية الضخمة.
من هو ستراوس؟
أستاذ جامعي من أصل يهودي، ترك المانيا النازية إلى أمريكا (1940)، وحاضر في جامعة شيكاغو، وأشرف على أطروحات الدكتوراه في الفلسفة التي حملت اسمه «الستراوسية» بفضل طلابه الذين تحمسوا كثيراً لأفكاره يرشح منها الفكر وينطبع السلوك السياسي الأمريكي الذي يعاني منه الكثيرون في منطقتنا والعالم إلى درجة الكره.
ما مختصر فلسفة ستراوس؟
1- الفلسفة السياسيّة: أعاد ستراوس الاعتبار للفلسفة بمعانيها التقليدية، بعدما كادت تفقد رونقها وعظمتها أمام ضحالة «الحداثة». فالأفكار الخاصة بالحداثة طوباوية برأيه، لذا فإن تخليص الفلسفة من براثن الحداثة التي فتحت نوافذ المعرفة للعاديين من البشر وقلّلت من شأن الفلاسفة، يكون في جعلها مادةً كبرى تساعد في تكوين القرار السياسي العريق.
2- الدين: يعتبره ملاط المجتمعات وعقيدتها خصوصاً العسكرية منها. فالناس لا يجازفون بأرواحهم إلاّ إذا كانوا موعودين بالجنّة، ولا قيمة لإشاعة الأخلاق والأفكار خارج دوائر العقيدة الدينية.
3- لا مكان للأخلاق في السياسة، بل كلّ الأمكنة مقبولة للخداع وفنون المراوغة والتسويف. وتكاد تقتصر الحقيقة على النخب الحاكمة المؤمنة بمبدأ أنّ القوي يحكم الضعيف بحيث لا يجب أن تصل السياسات الى خواتيمها النبيلة إلاّ بعد جرّ القادة للدخول في محور الشرّ والاستغراق فيه.
بهذا المعنى، نرى معاً خمسة مفاتيح لامعة تقبض عليها يد الولايات المتحدة وهي تقرع أبواب الشرق الأوسط، وغيره من دول العالم: أسلحة الدمار الشامل، الإرهاب، التهريب الدولي وتبييض الأموال، الديمقراطية، الحرية ومسألة النظم السياسية. هذه المفاتيح معلّقة بسلسال «ذهبي» تُدخل أنظمة الدول وشعوبها أعناقها داخله حلقات تلو حلقات، فتجد الناس يخرجون إلى الشوارع في العديد من دول العالم لتحيّة أمريكا ومباركتها بينما ترى في المقابل شعوباً تخرج في التظاهرات تحرق الأعلام الأمريكية. ذاك الرفض وهذا القبول يدوران صاخبين حول مبادئ خمسة ثابتة: مبدأ حصر القوة بأمريكا، ثروات النفط والغاز، حماية «إسرائيل»، الحؤول دون أي قوّة عظمى أخرى من الظهور، العبث بالقيم والأديان لمصلحة القيم الأميركية.