في خضم المعمعة العالمية السائدة جراء التداعيات الخطيرة لوباء كورونا ونتائجه الكارثية على الاقتصاد العالمي، وفي قمّة العقد السياسية المتأتية من قرارات اسرائيل ضمّ اجزاء من الاراضي الفلسطينية المحتلة اليها، ومع انشغال العالم بالازمات الدبلوماسية والنزاعات الاقتصادية والمالية وبعض الدول بالانتخابات الرئاسية المزمع اقامتها، وفي حين بدأت تركيا ممارسات اعتبرتها اوروبا "استفزازية" على الحدود القبرصية واليونانية لاستخراج النفط، استفاقت المحكمة الاداريّة العليا على وجوب اعتماد آيا صوفيا مسجداً من جديد. وما ان صدر القرار حتى سارع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الى تلقّفه القضية والسماح ببدء الصلاة في "جامع آيا صوفيا" اعتباراً من 24 من الشهر الحالي.
القرار لاقى انقساماً في الشارع التركي نفسه، بين مؤيد له، ومعارض لانّه يبعد تركيا عن مبدأ العلمانيّة، ولا شكّ انه يمكن القول انّ اردوغان خلع عنه ثياب الحمل العلماني التي استعملها لفترة طويلة لاقناع الغرب واوروبا تحديداً باحتضانه والتعامل معه، وهو ما حصل بالفعل، الى ان وجد نفسه في موقف حرج جداً داخل تركيا وخارجها. كثيرون اعتبروا خطوة اردوغان هذه بمثابة هروب الى الامام وتقطيع الوقت لتحويل الانظار عن المأزق الاقتصادي الذي تعاني منه تركيا، اضافة الى كونها محاولة "الخرطوشة الاخيرة"لاستعادة بعض الشعبيّة التي فقدها الرئيس التركي وحزبه منذ فترة من الوقت والتي تجلّت بوضوح في الانتخابات البلديّة التي خسرها العام الفائت،وخصوصاً في اسطنبول وانقرة.
خطوة تحويل آيا صوفيا الى مسجد اثارت الكثير من التساؤلات، ابرزها سبب اعتماد هذا التوقيت تحديداً في حين أنّ اردوغان نفسه كان حاول عدة مرات "جس نبض" اتخاذ هذا القرار ولاقى في حينه تحذيرات شديدة من روسيا والعالم الغربي بأنّ الرد سيكون قاسياً. مما لا شك فيه ان تركيا لا تحتاج الى مساجد جديدة، فهي تتمتع بعدد كاف من المساجد لتلبية الحاجات الدينيّة لسكانها وزائريها، ولكن الخطوة سياسية حتماً واعتبر الكثيرون انها اتت ضمن خطة "اردوغانية" لمحو بصمات مصطفى أتاتورك (الذي أسس الجمهورية التركية واعتمد آيا صوفيا كمتحف عام 1934)، وترسيخه كمؤسس "الجمهورية التركية الثانية". هذه الخطوة لن يكتب لها النجاح، حتى ولو اغفل اردوغان ذكر اتاتورك في كلماته ومواقفه، فصورته لا تزال مهزوزة شعبياً ولو كسبت بعد "القرار المسجدي"بعض المؤيّدين، غير ان استمراره في اعتقال العديد من الاتراك متهماً اياهم بالمشاركة في محاولة الانقلاب عليه من نحو اربع سنوات، اضافة الى الوضع الاقتصادي والمعيشي الصعب الذي تعاني منه تركيا، ناهيك عن ازدراء العلاقات مع اوروبا، كلها امور تنعكس سلباً على صورة الرئيس التركي الحالي وتبعده عن تحقيق هدفه المنشود.
ومن المؤكّد ان اردوغان لم يكن ليتخذ مثل هذا القرار لولا "قبّة الباط" الروسي بالدرجة الاولى (كونها البلد الاكثر تأثيراً للطائفة الارثوذكسية)، وهو ما تجلى بردّة الفعل الخجولة التي صدرت عن نائب رئيس الوزراء، والمواقف العادية الاخرى التي صدرت عن باقي زعماء ومسؤولي العالم الغربي، وهو ان دل على شيء فعلى ان آيا صوفيا قد دفعت الثمن لغضّ النظر. ويملك الروس والغرب اسلحة عديدة كانت كفيلة بمنع اردوغان من القيام بهذه الخطوة في السابق، وتخلوا عن استعمالها اليوم على ما يبدو، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، فرض حظر على الحركة السّياحية الغربيّة تجاه تركيا (كما حصل ابان النزاع الروسي-التركي عام 2015 بعد اسقاط تركيا لطائرة روسية) علماً ان متحف آيا صوفيا يجذب لوحده اكثر من 3 ملايين ونصف المليون سائح سنوياً. اما الخطير في موقف اردوغان، فهو انه اطاح بالاتفاق مع "الاونيسكو" في ما خص هذا المعلم الديني-الثقافي، واباح في المقابل لكل من يتحكم بالارض ان يحوّل اي معلم ديني اكان مسيحياً ام اسلامياً الى ما تريده السلطة في البلد المعني، هل بات من المسموح مثلاً للاسرائيليين ان يحوّلوا المسجد الاقصى الى كنيس؟ او ان تحوّل اوروبا المساجد الموجودة فيها الى كنائس؟ وللتذكير، فإن آيا صوفيا كانت في الاصل كاتدرائية، قبل ان يحوّله السلطان محمد الثاني العثماني عام 1453 الى مسجد بعد الغزو الاسلامي، ثم اعتباره من قبل اتاتورك متحفاً، فكيف يعيده اردوغان خطوة واحدة فقط الى الوراء وليس خطوتين ليعود الى اصله؟.
عرف الرئيس التركي الوقت المناسب للانقضاض على آيا صوفيا التي تخلى عنها الروس والغرب، ولكن منافع هذه الخطوة قد لا تكونعلى قدر توقعاته، الذي عليه اولاً ان يكسب قلوب الشباب التركي الذي يعاديه واسقطه في الاستحقاقات الانتخابية، كما عليه ان يستحوذ على ثقة العالم الغربي، ولا يكتفي بالتقاء المصالح بينهما لفترة من الوقت.