لم يُظهر الرّئيس التّركيّ رجب طيّب أَردوغان، في ملفّ تحويل متحف "آيا صوفيا" التّرائيّ العالميّ إلى مسجدٍ، تبدأ الصّلوات فيه بتاريخ 23 تمّوز الجاري، "نموذجًا مثاليًّا للحاكم المُسلم"! في وقتٍ نجد أَنّ ما تنعم به تركيا اليوم، من تقدّمٍ نسبيٍّ وازدهارٍ، إِنّما الفضل فيه يعود إِلى مصطفى كمال أَتاتورك، أَي إِلى النّظام العلمانيّ فكرًا وفلسفةً وسياسةً.
وأَردوغان المُنتمي إِلى "حزب العدالة والتّنمية"، يميل بوجدانه ويتطلَّع إِلى إِعادة الحُكم الدّينيّ سواءً عن طريق العودة إِلى نظام الأَجداد (الخلافة العُثمانيّة) أَو عن طريق إِحياء النّزعة الدّينيّة في المجتمع التّركيّ، لتكون بعد ذلك عاملاً مُساعدًا له في ترويض الشّعب وتشريع ديكتاتوريّته، ليُصبح أَكثر جُرأة ويحقِّق أَهدافه وأطماعه التّوسّعيّة شيئًا فشيئًا...
كما وأَنّ حسابات أَردوغان الدّاخليّة، ورهانه في هذا المجال على شعبٍ سيَسْكر بجُنوح رئيسه نحو الأُصوليّة ليس في محلّه، إِذ إِنّ الشّعب التّركيّ قد رضع وتشرّب مفاهيم الحريّة والعلمانيّة كما وأَنّ ثقافة الإنسان التّركيّ، وأُسلوب حياته وسيكولوجيّته وبُعده السّوسيولوجيّ... أَقرب إِلى الشّعوب الأُوروبيّة منه إِلى الشّعوب العربيّة...
حتّى أَنّ تاريخ العرب والمسلمين عابقٌ بقيم التّسامح والتّعايش مع غير المسلمين، كما وأَنّ المسيحيّين حصلوا على وظائف عُليا في الدّولتين الأُمويّة والعبّاسيّة!. وأَكثر ما يُخشى، أَن يكون حنين أَردوغان إِلى حقبةٍ إِجراميّةٍ لا خير فيها للعرب ولا للمُسلمين، بل إِنّها كانت سببًا في عُزلة العرب، وتخلُّفهم على مدى قرونٍ من الزّمن... في ظلّ حقبةٍ كانت سببًا في تشويه الصّورة الحقيقيّة للإِسلام، من خلال رسم الدّين في صورةٍ دمويّةٍ وعُنصريّةٍ دينيّةٍ وعرقيّةٍ، لم توفّر العرب ولا المسيحيّين، إذ نفّذ العثمانيّون جرائم في حقّ العرب، لا لشيءٍ سوى أَنّهم عرب، كما وأَنّ ما ارتكبوه من إِبادة جماعيّةٍ في حقّ الأَرمن لا لشيءٍ سوى أَنّهم مسيحيُّون!.
والخُطوة الأَردوغانيّة المُتطرِّفة الأَخيرة الّتي تم فيها تحويل متحف آيا صوفيا إِلى مسجدٍ؛ أَثبتت بما لا يدع مجالاً للشّكّ أَنّ النّظام التُّركيّ بدأَ يقترب مِن أُسلوب الميليشيات التّكفيريّة، ويكاد يتلاشى الفرق بينه وبين الجماعات الإرهابيّة كـ "داعش" و"القاعدة".
وهذهِ الخطوة تُهين كُلّ مَن يحترم حُريّة الأَديان ومشاعر أَتباع كُلّ دينٍ، وإذا ما سُمح لأردوغان بالمضيّ في خطته الممنهجة، فلن نُشاهد في تركيا أَيّ كنيسةٍ، إذ إنّه وَفقًا للـ "عُثمانيّة الجديدة"، لا مكان لأَي دينٍ آخر في تركيا سوى الإِسلام. فما هو مُتحف "آيا صوفيا"، الّذي هو في الأَساس كنيسةً؟.
كنيسة آيا صوفيا
كنيسة "آيا صوفيا" التّاريخيّة الّتي ينوي أَردوغان تحويلها مُجدّدًا إِلى مسجدٍ مكثت تحت الاحتلال التّركيّ 677 عامًا، بعدما كانت بُنيت في العام 537 على يد إِمبراطور بيزنطيا جوستنيان الأَوّل، وقد اختير موقع بنائها على تلّةٍ في وسط العاصمة الإِمبراطوريّة المُطلّة على مضيق البوسفور، آخر بقعة أَوروبيّة مقابل المشرق المسيحيّ آنذاك، المُمتد من مصر حتّى سوريا ولبنان وجبال الأَناضول وكيبدوكيا وأَرمينيا. وبعد إِنجازها، اعتُبرت تحفةً ومُعجزةً معماريّةً في القرن الخامس لا مثيل لها لا شرقًا ولا غربًا سوى الإِهرامات المصريّة، وأَبهرت الجميع ببنائها الضّخم وصحن قبتها وقاعة هيكلها الشّاسع المُتّسع لآلاف المُصلّين وهندستها الفريدة... وقد استمرّت تلك الكنيسة في خدمة المؤمنين من المسيحيّين لأَكثر من أَلف عامٍ، شهد فيها جرن العماد على بركة آلاف الأَطفال وجدرانها سمعت طلبات الفُقراء والمرضى والمحتاجين.
وفي يومٍ أَسود من العام 1453، وصلت طلائع جُنود السُّلطان التُّركيّ محمّد الثّاني إِلى المدينة، وقد عقد النّيّة على احتلالها، بعد ما فشل أَجداده في تلك المهمّة لمئات الأَعوام، كما فشل قبله الخليفة الأُمويّ معاوية في القرن السّابع، حين بقيت الكنيسة عصيّةً على المُحتلّين.
ووعد السّلطان جنوده بأَن تكون المدينة –إِذا دخلوها– مُلكًا لهم لثلاثة أَيّام، وأَنّ نساءها بكُلّ أَعمارهم في الدّاخل هديّة لهم كجواري لتشجيعهم على القتال. وهكذا، حاصر الأَتراك المدينة المُنهكة لفترة 52 يومًا، إِلى أَن دخلوها في ٢٩ أَيّار بعد اختراق جُدرانها، وبدأت مذبحة كبرى وعمليّة اغتصابٍ هي الأَكبر في التّاريخ. وقُطعت رؤوس عشرات آلاف الرّجال البالغين أَمام نسائهم، لحظاتٍ بعد ما شهدوا اغتصاب بناتهم. واستمرّ سماع صراخ تلك الفتيات طوال اللّيل المليء بالحرائق ورائحة الموت والدّماء، حيث تناوب الجنود على انتزاع الفتيات الصّغيرات من أَيدي رفاقهم واغتصابهنّ مع أُمهاتهنّ.
وأَمّا الكنيسة الّتي اختبأ فيها وفي ساحاتها وأَقبيتها أَكثر من خمسة آلاف مُصلّ خوفًا، اقتحمها جنود السّلطان وكتيبته الخاصّة، وتوجّهوا فورًا إِلى المذبح، وأُخد البطريرك جانبًا مع كبار الأَساقفة والكهنة، وقُطعت رؤُوسهم في الدّاخل. وأَما الرّجال فسيقوا إِلى الخارج وقُتلوا واحدًا تلو الآخر أَمام عائلاتهم، وجُمع الأَطفال الذذكور وجرى تكبيل أَرجلهم بالسّلاسل تمهيدا لبيعهم كعبيد، لتبدأ لاحقًا حفلة اغتصابٍ جديدةٍ للنّساء والفتيات انتهت بتكبيلهنّ تمهيدًا لإِهدائهنّ إِلى القصور والبيع في الأَسواق البعيدة.
وقيل يومها إِنّ أَصوات العويل خرقت قناة البوسفور إِلى الجهة الأُخرى: أَطفالٌ فُصلوا عن والداتهم وسيقوا بعيدًا والحديد في أَعناقهم... كما وكُسّرت أَبواب الكنيسة البرونزيّة وأُخرجت ذخائر القدّيسين وأُحرقت خارجًا مع الأَيقونات النّادرة، ونُهب ذهب "الايكونستاس الكبير". ولم تنتهِ المذبحة إِلاّ بوصول السُّلطان إِلى السّاحة حيث عاين المبنى الّذي راقبه مع أَبيه مِن بعيدٍ لسنواتٍ طامعًا فيه!. وقد أَعلن فورًا نيّته بتحويله إِلى مسجدٍ عاقدًا العزم على الصّلاة فيه بعد أَسابيع...
التّاريخ يُعيد نفسه
لقد أَزمع أَردوغان على الالتزام بكتاب محمّد الثّاني على حساب الكُتُب السّماويّة، وإِذا كان الثّاني غسل الدّماء عن الرُّخام الأَبيض لأَرضيّة الكنيسة وبدأ بطمس الفُسيفساء على جُدران الكنيسة، حيث أُخفيت العذراء من فوق المذبح وأَيقونة المسيح الذّهبيّة من أَعلى مدخل الكنيسة، وطُلست الجدران بالكلس لإِخفاء المعالم المسيحيّة... فإِنّ أَردوغان تعهّد بعد 567 عامًا، باستكمال طمس الحضارة الإِنسانيّة، مستهدفًا بذلك أوّل ما استهدف، وثيقة الأخوّة الإنسانيّة الّتي وقّعها في أَبوظبي السّنة الماضية، قداسة البابا فرنسيس وشيخ الأَزهر أَحمد الطيّب. وإِذا كان كِلْس محمّد الثّاني يذوب مع الوقت، لتظهر مُجدّدًا المعالم المسيحيّة على الفُسيفساء، فإِنّ لأَردوغان أُسلوبه الخاصّ في عصر التّكنولوجيا المُتطوِّرة، والسّياسات الدّوليّة الإِنزوائيّة–الإنعزاليّة لا بل التّحريضيّة التّكفيريّة، ليمحو الحضارة الإِنسانيّة على طريقته!. وللحديث صلة...