يدرك شياطين الأزمات أنّ الشرق الأوسط كلَّه يترنَّح في لحظة واحدة، ويعرفون أنّ تحريك أي حَجرٍ فيه يسبِّب اهتزازاتٍ في حجارة أخرى. وعلى هذا الأساس، إنّ تحويل كاتدرائية آيا صوفيا إلى مسجد هو بالتأكيد خسارةٌ ثقافية للمسيحيين، ولكنه، على الأرجح، سيقود المسلمين إلى خسارة أكبر، لا ثقافية فحسب، بل أيضاً تتعلَّق بجوهر العقيدة الإسلامية؟ فمَن قرَّر هذا التلاعب الشديد الخطَر بالأديان والطوائف على سطح برميل البارود؟
لم تُسمَع جيداً أصواتُ مفكرين مسلمين اعترضوا على قرار الرئيس التركي رجب طيّب إردوعان إخضاع كنيسة القسطنطينية للغلبة العثمانية، ومحو هويتها الأصلية بتحويلها مسجداً. وانحصرت الردود بين مسيحيين يرفضون القرار ومسلمين يرفضونه أو يؤيّدونه أو يلزمون الصمت تجاهه، ولكن من منطلقات مختلفة.
ما لم يتوقف عنده المسلمون الداعمون للقرار التركي، ولا سيما منهم العرب، هو: هل قرأوا جيداً معنى أن يقوم طرفٌ قوي، صاحب نفوذ قومي أو سياسي أو ديني، بتغيير هوية طرفٍ ضعيف أو منقرض (بيزنطية)، ومحو إرثه القومي والثقافي والديني؟
في عبارة أخرى: هل يدرك هؤلاء أنّهم يقدِّمون لإسرائيل هدية ثمينة من خلال المسلمين أنفسهم، ورثة السلاطين العثمانيين الذين كانوا يمثِّلون الخلافة الإسلامية أيضاً، بدءاً بمحمد الفاتح الذي أسقط القسطنطينية في العام 1453؟
كنيسة آيا صوفيا كان قد جرى اعتمادها مسجداً في العهود العثمانية. لكن مصطفى كمال أتاتورك جعلها متحفاً في العام 1934 لتأكيد طابع الدولة العلماني. واليوم، بإعادتها مسجداً، على الأرجح، ستكون إسرائيل هي الأكثر ارتياحاً، إذ تقدّم إليها مبرِّراً لتهويد معالم إسلامية تسيطر عليها، وأبرزها المسجد الأقصى.
ماذا تُخطّط إسرائيل للمسجد الأقصى؟
في أيار 2018، بعد اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل، زار السفير الأميركي هناك ديفيد فريدمان معهداً دينياً يهودياً، في أحد الأحياء المعروفة بكثافة حضور اليهود المتديِّنين. وهناك تلقّى هدية هي عبارة عن صورة للقدس، وفيها تمَّت إزالة المسجد الأقصى وبُني في مكانه هيكل سليمان.
لم تظهر على السفير ردود فعل مستنكرة. وإزاء الردود الإسلامية الغاضبة، أصدرت السفارة الأميركية بياناً أوضحت فيه أنّ فريدمان لم يتنبَّه إلى التعديل الذي تعرَّضت له الصورة.
ولكن، من المعروف أنّ هناك جدلاً ساخناً لطالما أثارته إسرائيل حول موقع المسجد الأقصى في القدس، إذ إشارت إلى أنّه بُني فوق هيكل سليمان، وتحدثت مراراً عن اكتشافات أثرية تدعم ذلك، واستندت إلى بعض المراجع والأبحاث. وهذه المسألة لطالما أثارت مخاوف المسلمين من قيام إسرائيل بهدم المسجد أو أجزاء منه لإظهار آثار الهيكل.
في الرواية التاريخية، أنّ الهيكل الأول الذي بناء سليمان الملك (957 ق.م - 586 ق.م) دمّره الملك البابلي نبوخذ نصر الثاني. ولكن، في العام 515 ق.م، أعاد إرساءه الحاكم الفارسي زَرُبّابل. ودام هذا الهيكل حتى العام 70 للميلاد، عندما هدمه القائد الروماني تيتوس ودمّر القدس.
مع الفتح الإسلامي، كان الهيكل مهدَّماً. وفي العام 637 ميلادية، استولى الخليفة عمر بن الخطاب على القدس. ووفق المراجع الإسلامية، هو مَن أمر ببناء المسجد الأقصى، أي الأبعَد مسافة عن مكة، والمكان الذي أسرى فيه الرسول. وفي العام 691، قام عبد الملك بن مروان ببناء قبة الصخرة.
وتباعاً، أقيمت مساجد ومصليات عدة في المكان الذي يمتدّ اليوم على 144 ألف متر مربع، أي 16 بالمئة من مساحة القدس القديمة. لكن اليهود يطلقون على البراحات المحيطة بالمساجد تسمية «جبل الهيكل» لتأكيد أنّها بُنيت في موقع هيكل سليمان.
وفي اللحظة التي يسرِّع فيها بنيامين نتنياهو إلى تكثيف عمليات السيطرة والتهويد، ويمهّد لضمّ الضفة الغربية والأغوار، ستكون «أسلمةُ» آيا صوفيا مبرِّراً كافياً لـ»تهويد» الأقصى، علماً أنّ الصهيونية قادرة على ابتكار الذرائع لتهويد الأقصى ما دام الإسلام قد جاء بعد اليهودية، ويمكن الادّعاء أنّ المسجد بُني على أنقاض الهيكل. وأما ذرائع الأتراك لـ»أسلمة» آيا صوفيا فلا تصلح في المطلق، لأنّ الإسلام جاء بعد المسيحية، ولا يمكن الادّعاء أنّ الكنيسة قامت على أنقاض مسجد.
ولذلك، يمكن طرح السؤال: مَن أوحى لإردوغان بتقديم هذه الهدية التاريخية لإسرائيل؟ وهل هنالك ثمنٌ سيتقاضاه الرجل مقابل ذلك، ومِمَّن؟ وهل يكون الثمن على مستوى الخريطة الشرق أوسطية كلِّها؟
ثمة مَن يخشى أن يكون قرار إردوغان فاتحةً للتلاعب بالعصبيات الدينية والطائفية على مستوى الشرق الأوسط كله. فهو ليس منفصلاً عن المفاوضات والمقايضات الجارية بين الامبراطوريات العثمانية والفارسية والروسية، والتي تترقبها إسرائيل بدقة وتستعدّ لاستثمارها.
وفي الفترة الأخيرة، سعى الأتراك إلى تدعيم انتشارهم ونفوذهم في الشرق الأوسط، من شمال العراق وسوريا إلى ليبيا. وهذا المناخ سيمنحهم أوراقاً في اللعبة وعملية رسم الخرائط التي ترعاها إسرائيل، والتي ستبدأ من الضفة الغربية وغور الأردن.
من سوء حظّ العرب، وسوء سلوكهم أيضاً، أنّهم سيكونون المادة الموضوعة على الطاولة للمساومة. وستكون إسرائيل هي اللاعب الأقوى والأكثر جرأة وتحقّق مكاسب استراتيجية تاريخية. وستكون للولايات المتحدة والقوى الدولية حصص وافية مضمونة. وأما تركيا وإيران فلهما مكاسب مضبوطة في الحجم والزمان والمكان سيتمّ التفاهم عليها في النهاية.
في هذا المناخ من المقايضات الساخنة بين الأديان والإمبراطوريات القديمة، ستبحث المجموعات الضعيفة طائفياً وقومياً عن موقعٍ لها وغطاء يحميها.
وسيكون مُلِحّاً السؤال: أي خطرٍ سيتهدّد لبنان وتركيبته وهويته؟ وماذا عن مستقبل المسيحيين خصوصاً؟ وهل سيتمكنون من الدفاع عن هذا الـ»لبنان»- النموذج أو هو الذي سيتمكن من الدفاع عنهم؟ وكيف؟