يجد الباحث في حرب تموز 2006 و النصر الذي صنعته المقاومة في لبنان فيها يجد نفسه اليوم و بعد 14 عاما امام حدث تاريخي يتمادى في مفاعيله في الزمن و يستمر بإنتاج التداعيات على اكثر من صعيد استراتيجي و عملاني و في اكثر من اتجاه سواء في ذلك على صعيد الطرف المنتصر او الجهة المهزومة او على الصعيد الإقليمي و الدولي بشكل عام ، يحدث كل ذلك لان نصر 2006 جاء من طبيعية استراتيجية و عسكرية خاصة اقل ما فيها وصفها بانه فعل تغيير لمسار وعمل تأسيسي لمنظومة تختلف في خصائصها و تأثيرها في الإقليم عن كل ما شهدته المنطقة منذ قرن من الزمن و بدقة اكثر منذ الحرب العالمية الأولى ، تلك الحرب التي احدث زلزالا ضرب المنطقة العربية فأخرجها من يد الدولة العثمانية البائدة ليضعها أولا تحت سيطرة اروبية محكمة ، ثم ينقلها في مرحلة لاحقة الى سيطرة غربية أميركية فعلية مقنعة بقناع الاستقلال الشكلي لمعظم الدول سواء انتحلت صفة الجمهورية او المملكة او الامارة و المشيخة.
لقد حددت اميركا هدف حرب تموز بصراحة لا بكل وقاحة بعبارة جاءت على لسان وزيرة خارجيتها قالت فيها انها "مخاض لولادة شرق أوسط جديد" تقيمه اميركا بالفوضى الخلاقة دون ان يكون فيه معترض او ممانع او مقاوم لسيطرتها او بصورة ادق انها حرب لمعالجة ظاهرة الممانعة و المقاومة فيه ، و اكدت اميركا بذلك ان حرب تموز ليس حربا بين إسرائيل و حزب الله فحسب بل هي استمرار لحرب تشنها على المنطقة قوى دولية بقيادة اميركا تعمل لفرض مشروعها الاستعماري و بسرعة تحققها وسيلة مضمونة النتائج هي القوة العسكرية التي تعتمد استراتيجية القوة الصلبة والتي ترى اميركا انها تملك التفوق فيها بدون منازع و انها قادرة عبرها لفرض ما تشاء دن ان تتوقف عند سيادة وطنية او قواعد قانونية او شرعية دولية .
نعم كانت حرب تموز الحلقة التي تعول عليها اميركا بان تكون الحلقة الحاسمة من سلسلة الحروب التي تنفذها من اجل إزالة أي عقبة تعترض مشروعها في إقامة الأحادية القطبية في العالم ،حروب افتتحتها اميركا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي و كانت البداية مع حرب عاصفة الصحراء في العام 1991 التي أدت الى انتشار عسكري اطلسي في الخليج ما احكم السيطرة كليا على ابار النفط و معظم الاحتياط الاستراتيجي العالمي منه ، ثم كانت حرب غزو أفغانستان في العام 2001 و تموضع الحلف الأطلسي في جوار الصين و روسيا و السيطرة على اهم و اخطر المناطق استراتيجيا بما في ذلك التحكم بطريق الحرير الذي تحلم الصين بأحيائها ، ثم كان غزو العراق و احتلاله في العام 2003 من قبل اميركا لتمنع أي اتصال جغرافي بين مكونات محور المقاومة ايران و سورية و المقاومة في لبنان و فلسطين.
هدفت حرب تموز 2006 ببساطة كلية الى كسر راس الرمح المقاوم المتمثل بحزب الله في لبنان، تمهيدا لتفكيك محور المقاومة الذي كان يشكل المجموعة الدولية شبه الوحيدة التي بقيت تقول لا للعدوان الصهيواميركي وترفض الانصياع للشروط الأميركية التي قدمت لسورية في العام 2003 ورفضها الرئيس بشار الاسد. كانت اميركا تريد ان تتخلص كليا من أي جهة او مكون او دولة تمارس ممانعة او تحفظا او مقاومة لسياستها. ولهذا كانت الحرب التي استمرت على مدى 33 يوما. بيد انه ظهر لإسرائيل في الأيام العشرة الأولى منها انها لا تملك عناصر النجاح واستشعرت بان حزب الله سيمنعها من النصر الذي تريد وانه اعد لها سلسلة من المفاجآت العملانية والنفسية والاستراتيجية حرمتها من الركون الى تاريخها العسكري القائم عل مقولة انها تملك " الجيش الذي لا يقهر “.
لقد فاجا حزب الله إسرائيل في الميدان بدءا بالقتال البري والمواجهة المباشرة، ففي حين كانت تظن ان الطيران الحاسم سيدمر ويسحق ثم تدخل المدرعات والمشاة لتكنس وتحتل، وجدت رجال حزب الله يتقون القصف حين وقوعه ويثبتون في الأرض بانتظار سحق قوى العدو عند ملاقاته، وكان نموذج مارون الراس الاختباري ما حفر في العقل الإسرائيلي العسكري وأرعبه ولا زال، ثم كانت معركة بنت جبيل وما لمسه العدو من تكتيك المقاومة القائم على "المراوغة في الميدان" بدل الانسحاب والهرب الذي كان تريده.
كما فاجا حزب الله إسرائيل بالقوة النارية التي يملكها و اسقط مقولة الحرب على ارض الخصم و فاجأها بانضباط النار الذي مارسه ، حيث التزم الحزب تنفيذ قصف متدرج فعال خاضع لتقنين ذكي يمكنه من الاستمرار في الأداء الناري المؤثر حتى اللحظة الأخيرة و كان امر اطلاق النار عبر الشاشة الامر الذي وجهه السيد حسن نصرالله للمقاومين لإحراق البارجة ساعر مقابل شواطئ بيروت كان له اثر زلزالي على العدو في اكثر من بعد و اتجاه كما كانت مقولة القصف الى حيفا و ما بعد حيفا و ما بعد بعد حيفا مقولة نزلت كالصاعقة على راس القيادة لإسرائيلية و اقتلعت من الصدور المعنويات. اما مجازر دبابات الميركافا في وادي الحجير وسهل الخيام فان أثرها لا زال حتى اليوم يحفر في النفس الإسرائيلية ويعيد انتاج الألم فيها ويسقط المعنويات ويهدم إرادة القتال كما جاء في دراسات أخيرة لمراكز بحوث إسرائيلية اكدت عدم جاهزية قوى البر الإسرائيلية معنويا وماديا لحرب جديدة مع حزب الله.
اكتفي بهذا القدر العملاني والنفسي لأعود الى الشأن الاستراتيجي، وأقول لمست إسرائيل عجزها عن النصر فأرادت التوقف في اليوم العاشر للحرب لكن اميركا منعتها وحشدت كل من ينصاع لها من اجل ذلك فامتنع مجلس الامن عن الاجتماع لوقف الحرب وكذلك غابت الجامعة العربية وسكتت أصوات الدول كلها لأنهم كانوا ينتظرون هزيمة حزب الله التي تأخرت ولم يكونوا يعلموا بانها لن تقع ولم تقع. بل حصل العكس وهزمت إسرائيل والاصح هزمت اميركا في حرب استعملت إسرائيل لشنها ... وحدث الزلزال الاستراتيجي الذي لازالت ارتداداته تتردد حتى اليوم.
جاء نصر تموز 2006 من طبيعة خاصة ، فكان نصرا منتجا و مولدا لانتصارات أخرى ، و كان اول نصر من نوعه يسجل على إسرائيل و يفوق بأهميته نصر العام 2000 نصر قل مثيله في التاريخ الحديث .واذا كان عبد الناصر قال للعربي "ارفع راسك يا اخي " ليعالج عقدة الدونية لديه ، و اذا كان أنطون سعادة قال "الحياة وقفة عز " ليعالج الخوف والتردد عند اتخاذ القرار الصعب ، فان المقاومة و سيدها اكدت للعربي و المسلم انه قوي و قادر اذا اراد و قالت له "نعم تقدر ان تنتصر " و اكدت له بان "زمن الهزائم قد ولى و حل زمن الانتصارات" كما اعلن و بكل ثقة السيد حسن نصرالله و بهذا عالج عقدة الضعف و عدم الثقة بالنفس و التسليم للعدو بالمقدرة.
و بعد ذلك جاءت مجريات الاحداث في المنطقة لتؤكد صوابية ما ارادته المقاومة و صنعته في العام 2006 و ها هي سلسلة الانتصارات التي بدأت حلقاتها الأولى في لبنان في العام 2000 و 2006 ، ها هي تستمر و تتوالى في العراق الذي اخرج الاحتلال في العام 2011 و في سورية التي اسقطت اكبر عدوان كوني على دولة ، و في ايران التي تحدت اميركا و صفعتها في عين الأسد ، و ها هو التحول الاستراتيجي الذي فرض على إسرائيل جملة من الأمور ما كانت تتصور ان تصل اليها حيث حرمها من قرار الحرب الحر الطليق ، و حرمها من التفوق الذي كانت تدعيه و اسقط مقولة "الجيش الذي لا يقهر" و فضح البنية الإسرائيلية الواهنة التي ظهرت انها كبيت العنكبوت و هو اوهن البيوت، و هدم عقيدتها العسكرية في اهم بنودها ( الطيران الحاسم ، والحرب الخاطفة ، و الحرب على ارض الخصم ) ، و فضح عجز استخباراتها العسكرية و هشم هيبتها العسكرية و زرع في الجسم الإسرائيلي فيروس "نقص المناعة المعنوية" الفيروس الذي لم تجد إسرائيل علاجا له حتى الان وبات يفتك بجيشها الى الحد الذي يسجل فيه اليوم اكثر من 1200 مريض كما يعلنون .
اما اميركا فقد خسرت مشروعها، وطوت ملف استراتيجية القوة الصلبة لتتحول الى الناعمة (التي لم تجدها نفعا) وطار حلمها بحسم الوضع في الشرق الأوسط للتفرغ للشرق الأقصى. وها هي سلسلة التراجعات والخوف من الخسائر تستمر وليس ما حصل في لبنان في الأسبوع الماضي من تراجع أميركي بعد بوادر الفشل في الحرب الاقتصادية إثر صمود حكومة لبنان ومقاومته وبيئة المقاومة صمود وقوة مكن لبنان من التلويح بالتوجه شرقا ما أخاف اميركا والغرب، ليس كل ما ذكر الا نموذجا من نماذج كثيرة تتوالد بعد ان استعادة الثقة بالنفس والاستشعار بالقوة.