في خضمّ إنقسامات وخلافات القوى السياسيّة اللبنانيّة، إزداد التشرذم بفعل تباين في الرأي من دعوة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي إلى حياد لبنان، وبفعل تفسيرات مُختلفة لأهدافها. فما هي المُلاحظات التي يُمكن تسجيلها في هذا الموضوع البالغ الحساسيّة، والذي خرج إلى الضوء في توقيت حسّاس؟.
أوّلاً: إنّ إصرار البطريرك الراعي على تكرار كلامه عن الحياد بوتيرة دَوريّة، يؤكّد تمسّكه بهذا المطلب، وأنّ ما قاله ليس زلّة لسان، أو مُجرّد عظة عابرة ذات يوم أحد، بل هو موقف مَدروس، له أسبابه وخلفيّاته، ويهدف إلى مُعالجة مُشكلة خطيرة يُعاني منها لبنان حاليًا.وهي تتمثّل في إنغماس لبنان-بغير إرادته، في صراع إقليمي دَولي شرس، يشمل دولاً عدّة ويمتدّ من إيران والدول الخليجيّة إلى روسيا والولايات المُتحدة الأميركيّة، الأمر الذي إنعكس سلبًا على البلد واللبنانيّين، بفعل الضُغوط وسياسة المُقاطعة وحتى العُقوبات التي فُرضت على بلاد الأرز، بحيث صار مَعزولاً عن العالم ومتروكًا بدون صديق لمُساعدته.وخشية الكاردينال الراعي أيضًا تشمل تغيير وجه لبنان الحديث، حيث تُوجد مُحاولات للتحوّل من الغرب إلى الشرق، مع كل ما يعنيه هذا الأمر من تأثير على الهويّتين الثقافيّة والتربويّة، ولتغيير طبيعة الإقتصاد الحُرّ وتطبيق سياسات شيُوعيّة الخلفيّة وشُموليّة الطابع، إلخ.
ثانيًا: حاولت القوى المسيحيّة والإسلاميّة المُعارضة للعهد الرئاسي وللحُكومة الحالية، لا سيّما كلّ من "المُستقبل" و"القوات" و"الكتائب" وبنسبة أقلّ "الإشتراكي"، الإستفادة من كلام البطريرك الماروني لأخذه إلى تموضعها السياسي العريض، لكنّ رأس الكنيسة المارونيّة رفض الإنجرار إلى أي تموضعات مُقفلة، ولأي جبهات سياسيّة تزيد حال الإنقسام، وأصرّ على أنّه على مسافة واحدة من الجميع، وأنّ ما يُصرّح ويُطالب به لا ينطلق من خلفيّات سياسيّة، بل ينطلق من مبادئ عامة كانت الكنيسة رأس حربة في الدفاع عنها منذ القدم، وهي ستستمرّ في دورها هذا، اليوم وغدًا.وحرصالبطريرك الراعي على توضيح هذا الموقف للرئيس العماد ميشال عون شخصيًا، منعًا لأي إستغلال لدعواته إلى الحياد، ولتجديد ثقته بقدرة الرئيس على مُعالجة الموقف بالشكل المُناسب.
ثالثًا: حرص "التيّار الوطني الحُرّ" على نفي أن يكون كلام البطريرك مُوجّهًا له، أو يستهدفه، في حين حرص "حزب الله" على الحديث عن علاقات جيّدة تجمعه ببكركي، وذلك في مُحاولة لإمتصاص وقع مطلب الحياد، قبل تفريغه من مَضمونه مع مُرور الوقت. لكنّ هذه المُحاولة مُرشّحة للفشل، في حال أصرّ البطريرك على تحريك الموضوع وعلى التذكير به بشكل دَوريّ، بحيث لن يكون من المُمكن عندها تجاوزه عن طريق إعتماد سياسة التجاهل والتمييع.
رابعًا: من المُتوقّع أنّ يحظى كلام البطريرك الراعي الأخير بمظلّة مَعنويّة بالغة الأهميّة من جانب أعلى سُلطة كنسيّة كاثوليكيّة، ويتمّ حاليًا تنسيق المواقف مع دوائر الفاتيكان لتأمين الدعم الدبلوماسي الكنسي من جانب الكرسي الرسولي، لمطلب حياد لبنان، بحيث يتمّ العمل عندها على مُستوى دَولي، لإعادة لبنان إلى أحضان العالمين العربي والغربي، ولتوفير الدعم المَطلوب له بعيدًا عن سياسة المُقاطعة.
خامسًا: إنّ تغيير الواقع الذي يعيشه لبنان لا يُمكن أن يتمّ بقرار حُكومي، أو حتى بتحرّك كنسي، بل بإجماع مُختلف القوى الرئيسة والفاعلة في لبنان، لأنّه يكفي أن يقوم أيّ طرف بالإخلال بمبدأ الحياد حتى يستجلب العداوات من أكثر من دولة أجنبيّة. حتى أنّ التوافق على مبدأ الحياد من دون الإلتزام بتطبيقه–كما حصل مثلاً مع "إعلان بعبدا"(1)، أو الإعلان كلاميًا عن الإلتزام بالحياد ثم الإنخراط بالمُعسكرات الإقليميّة والدَوليّة كما حصل مثلاً خلال الحرب السُوريّة(2)، سيؤدّي إلى دوران لبنان في الحلقة المُفرغة لمزيد من الوقت، وسيُسفر بالتالي عن مزيد من الأضرار والخسائر والإنهيارات. لكن في حال تكوّن مجموعة واسعة من الأصوات الداخليّة والخارجيّة الداعية إلى حياد لبنان عن الصراعات الإقليميّة والدَوليّة، فإنّ الضُغوط ستُصبح أكبر على الرافضين وعلى المُعرقلين، وأي فشل في تحقيق هدف الحياد سيُظهّر مسؤولية هؤلاء الرافضين والمُعرقلين في التسبّب بقسم كبير من مشاكل لبنان الحالية.
في الخُلاصة، إنّ لبنان أمام فرصة مُهمّة للعودة إلى السكّة الصحيحة، على صعيد علاقاته العربيّة والدَوليّة. فهل ستنجح مُبادرة البطريرك الراعي؟ وهل سُتحسن القوى الداخليّة والخارجيّة المؤيّدة لها، إدارة معركة تسويقها من دون إسقاطها بدهاليز السياسة الداخليّة الضيّقة؟ وهل يُمكن أن يرضخ "حزب الله" الذي تحوّل رأس حربة إقليميّة أساسية في الصراع الإيراني–الأميركي،لمطلب الحياد أم أنّه سيلتفّ عليه بهُدوء–كما فعل سابقًا، ويُواصل أخذ لبنان سياسيًا وإقتصاديًا إلى نموذج آخر من نماذج محور "المُقاومة والمُمانعة"؟.