إنشغل الرأي العام اللبناني بملف "التدقيق الجنائي" وأهميته وضرورته لمعرفة السبب الحقيقي الذي أوصل "مالية" الدولة الى الحضيض، وبحال أراد البعض البدء من مصرف لبنان، الا أنه لا يجوز التوقف عند حدود المصرف، بل المطلوب التوجه الى كل المؤسسات العامة، لأن المريض لا يُمكن أن يُعالج قبل معرفة السبب الحقيقي لمرضه، ولبنان لا يمكن أن يتقدم ما لم يعالج الأخطاء التي أوصلته الى ما هو عليه.
كثيرة هي الاخبار التي تناقلها الإعلام حول التدقيق الجنائي ومواقف الأطراف السياسية منه، وفي هذا المقال لن نتطرق الى تلك المواقف، بل سنتحدث عن أهمية التدقيق، وماهيته، خصوصا أنه أصبح اليوم من الشروط الأساسية لأيّ عملية إصلاح، وهو المدخل للتخلي عن سياسة "عفا الله عما مضى"، كون هذه السياسة سببت بالويلات التي يعيشها اللبنانيون".
وفي هذا السياق يؤكد الخبير الدستوري عادل يمين أن التدقيق الجنائي يعني التدقيق التشريحي، بمعنى إجراء تدقيق محاسبي عميق يقوم على تحليل الارقام والبحث في خلفياتها ومدى مشروعيتها، بالوقت الذي يكتفي فيه التدقيق المحاسبي العادي بالتحقق من صحة القيود من الناحية الظاهرية والرقمية من دون التعمق بخلفيتها ودراسة أبعادها.
ويضيف يمّين في حديث لـ"النشرة": "التدقيق التشريحي أو الجنائي ينطوي على تحليل خلفية الارقام بحيث اذا تبين وجود أرقام غير مشروعة، بخلفية جرمية أو جنائية، تُحال الى المراجع المختصة للملاحقة الجزائية"، مشددا على أنه لا يجب التخوف من هذا التدقيق لانه إذا تمّ بطريقة شفّافة وعلميّة فمن الممكن أن يطال مختلف الأمور المنطوية على أعمال غير قانونية أو تطرح علامات استفهام على أيّ صعيد كان، مع العلم أنه لا يمكن لاحد أن يتنبأ بالنتيجة قبل حصوله، إنما عندما تكون الشركات عالمية ذات صدقية فلا يجب أن نخشى من وجود نيّات مبيّتة حوله.
يقول البعض أن عملية التدقيق الجنائي في مصرف لبنان قد تحتاج الى سنوات لكي تنتهي، ولكن مقابل هذه النظرية هناك من يقول أن العملية لن تستغرق سنوات بظل المكننة الحديثة، والأنظمة المتطورة، وهنا يشدد يميّن على أن هذه العملية ضرورية جدا لكي تتوضح الصورة امامنا، والبداية يجب أن تكون من المصرف المركزي لانه مركز النقد والمكان الذي تتم عبره معظم العمليّات النقدية، داعيا لكي يُستكمل في مؤسسات الدولة.
لا يجب الحديث عن تداعيات التدقيق الجنائي قبل حصوله، وبحال كان لدى أي طرف لبناني أو أكثر هواجس بشأنه، خصوصا لناحية استثماره بالسياسة، فيجب أن تُعالج هذه الهواجس على قاعدة تتيح فعله لا التخلي عنه، وبحال كانت المشكلة بإسم شركة وارتباطاتها، فيمكن البحث عن بدائل، ولكن الأهم يبقى أن يجري لتحميل كل شخص مسؤولية ما قام به خلال كل السنوات الماضية.
كذلك تجدر الإشارة بحسب مصادر "النشرة" الى أن "صندوق النقد الدولي والمسؤولين الفرنسيين أكدوا لجميع المسؤولين اللبنانيين ضرورة التحقيق الجنائي في كافّة المؤسسات التي تتعاطى المال العام، مشددين على أن الإصلاح يبدأ من هنا".
مليارات من الدولارت هي بحكم المفقودة، ومن حق اللبنانيين معرفة أين ذهبت اموالهم، وما هو مصيرهم في هذا البلد، لذلك يجب أن ينطلق التدقيق، ولكي لا يكون استنسابيا فيجب أن يكون شاملا لكل قطاعات الدولة، بدءا من مصرف لبنان وصولا الى كل مؤسسة عامة ووزارة صرفت مليارات الدولارات دون أي نتيجة ملموسة.