قالها رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية بوضوح. هو "مقتنع" بأنّ رئيس الحكومة السابق سعد الحريري سيقوم بتسوية مع رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل ليعود إلى رئاسة الحكومة، "ونحنا منطلع برّا".
صحيح أنّ "رسالة" فرنجية للحريري لم تمرّ من دون "زوبعة" أثارها الحريري نفسه، عندما صنّفها "في غير مكانها"، مؤكداً أنّ "المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين"، ما دفع فرنجية إلى التعبير عن "اطمئنانه"، لكون ردّ الحريري "يقطع الشكّ باليقين".
ولكنّ الصحيح أيضاً أنّ خلف "الرسالة" أبعاداً بالجملة تتجاوز عملياً منطق "التسوية" وتبعاتها على المشهد العام، خصوصاً أنّها أظهرت مرّة أخرى أنّ "الحذر" لا يزال يطبع "الصداقة" الناشئة بين الحريري وفرنجية منذ الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة، ولو قالا العكس...
لا ثقة...
لم تأتِ "رسالة" فرنجية للحريري من فراغ. ليس الأمر مجرّد كلامٍ عابر قاله "بيك زغرتا" عفوياً، وهو المعروف بصراحته، التي يفصل بينها وبين "الوقاحة" خيطٌ رفيعٌ برأي الكثيرين، ولا سيما ممّن يخاصمونه، بل هو أراد "تسجيل موقف" يستبق فيه ما يستشفّه من أحداث ربما، قد تعيد البلاد إلى زمن "التسوية"، وما تختزنه من "عجائب".
لعلّها مفارقة أيضاً أن تأتي "رسالة" فرنجية، بالصدفة، متزامنةً مع "دردشة" للحريري مع الإعلاميين، واصل فيها "التصويب" على الوزير باسيل، ساخراً من قول الأخير بأنّ عودة "الشيخ سعد" إلى الحكم بعيدة، بالتذكير بأنّ صاحب القول سبق أن وعد بتغذية كهربائية 24 على 24 منذ سنوات، فإذا بالكهرباء اليوم لا تأتي سوى لساعات معدودات، إن أتت.
لكنّ "الصدفة" تدلّ على عاملٍ لا يزال "ناقصاً" في العلاقة بين "الصديقين" الحريري وفرنجية، على أهميته وحساسيّته، ألا وهو "الثقة"، ربما لأنّ "المؤمن لا يُلدَغ من الجُحر مرّتين"، أو لأنّهما "لُدِغا من الجحر نفسه"، كما جاء في ردودهما. فإذا كانا يقصدان بتعبيرهما رئيس "التيار الوطني الحر" بشكلٍ أو بآخر، وهما اللذان تحالفا معه خلال مسيرتهما السياسيّة، فإنّ الأمر يمكن أن ينطبق، وفق المعايير نفسها، على العلاقة التي تجمعهما، باعتبار أنّ فرنجية مثلاً كان "المتضرّر" الأكبر من "التسوية" بين الحريري وباسيل، والتي جاءت على حسابه بالدرجة الأولى.
وإذا كان الحريري يقول إنّ "حلفاء" فرنجية هم من يتحمّلون مسؤولية عدم انتخابه رئيساً بالدرجة الأولى، وإنّه كان آخر من تبنّى ترشيح الرئيس ميشال عون بعدما سُدّت كلّ الخيارات البديلة، فإنّ فرنجية "مقتنعٌ" على ما يبدو، بأنّ "السيناريو" نفسه يمكن أن يتكرّر في أيّ لحظة، خصوصاً إذا ما "حُشِر" الحريري، ووجد أنّ الطريق إلى السراي لا بدّ أن تمرّ بالتفاهم مع باسيل، وهو ما يراهن عليه الكثيرون أصلاً منذ الآن.
"الإيقاع ضُبط"... ولكن!
سريعاً، ضُبِط "الإيقاع" بين فرنجية والحريري. فعلى رغم حدّة الرسالة التي وجّهها الأول للثاني، فإنّ تغليفها بعبارات "المعزّة والمحبّة"، بكثافةٍ لافتةٍ، فَعَل فِعْلَه، لينتهي الأمر بتوافقٍ بين الجانبين، معطوفٍ على "طمأنينة" و"راحة"، وما هو أبعد من ذلك.
بكلامٍ آخر، يمكن القول إنّ الفضاء "الافتراضيّ" بين الحريري وفرنجية لم يزعزع خيوط العلاقة المرسومة بينهما، كما فعل مثلاً قبل أسابيع على خطّ العلاقة بين الحريري ورئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، التي لا يزال اللبنانيون يذكرون منها عبارة "بونجور حكيم" الجدليّة، أكثر من كلّ التسريبات عن اتصال "يتيم" جمع الرجليْن، تشير كلّ المعطيات إلى أنّه لم يُفضِ إلى أيّ شيءٍ عمليّ، أقلّه حتى الآن.
لكن، إذا كان الحريري وفرنجية نجحا في تجاوز خلفيّات "الرسالة" التي وجّهها رئيس "المردة"، عبر ضبط الإيقاع، وربما طيّ الصفحة بصورةٍ تلقائيّة، فإنّ ذلك لا يعفي من طرح جملة علامات استفهام، على جري العادة، عمّا يجمع فعلياً بين الرجليْن، وهما المختلفان أصلاً على كلّ شيء في السياسة والاستراتيجيا، بل حتى على مقاربة الحكومة، التي أصرّ فرنجية على رفض إسقاطها في حديثه الأخير، فيما يعمل الحريري ليلاً نهاراً لجعلها "من الماضي".
ثمّة من يعتبر أنّ "الجامع" بينهما ليس سوى باسيل، الأمر الذي اختصره عضو تكتل "لبنان القوي" النائب سيزار أبي خليل، حين توجّه إليهما بالقول: "ناسيين الدني ومهودسين بجبران". وبعيداً عن منطق بعض "العونيّين" الذي بات يذهب أحياناً لحدّ "تقديس" بعض الشخصيات، أو اعتبارها "محور الكون"، وتصويرها وكأنّها تتعرّض لـ "مؤامرة عالميّة" مبالَغٍ بها بطبيعة الحال، فإنّ مثل هذه المقاربة تجد ضالتها لدى الكثيرين، ممّن يرون أنّ العلاقة بين الحريري وفرنجية بات يسيطر عليها "شبح" باسيل، الذي يخشى كلٌ منهما، للمفارقة، أن يرتمي الآخر في "أحضانه" في أيّ لحظة.
نسف "الصداقة"؟!
منذ عاد الحريري إلى الظهور الإعلاميّ المكثّف قبل أسابيع قليلة، بدأ الكثيرون يُعِدّون العِدّة لنسخةٍ جديدةٍ، منقّحة ربما، من "التسوية الرئاسية"، التي أعادت "الشيخ سعد" إلى رئاسة الحكومة، ووضعته في مركبٍ واحدٍ مع باسيل على مدى السنوات الثلاث الأولى من "العهد".
ومع أنّ الحريري نفى مراراً وتكراراً أيّ رغبةٍ لديه بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، توازياً مع محاولة فرض نفسه من جديد مرشحاً شبه وحيد لرئاسة الحكومة، ولاقاه باسيل في منتصف الطريق، حين أعلن "الخلاص" من التسوية، تحت شعار "بيكفّي قديش دفعنا ثمنها"، فإنّ هذه "التسوية" لا تزال حتى اليوم في صدارة "الأحداث".
ثمّة من يقول إنّ كلام الحريري وباسيل لا يكفي، وإنّ الوقائع على الأرض قد تذهب باتجاه "تجديد" التسوية، ولو وفق منطق "لا حول ولا قوة"، فرضيّاتٌ عزّزها فرنجية بحديثه الأخير، ولو "نسف" من خلالها أساس "الصداقة" مع الحريري، التي تغيب عنها "الثقة"، العامل الأساس في "صمود" أيّ علاقة، وبالمُطلَق...