إن ّالأوضاع السياسية الهشّة التي شهدها لبنان خلال العقدين المنصرمين من فراغ على المستوى الرئاسي والحكومي والتشريعي، إضافة إلى العجوزات المتراكمة في المالية العامة، والمُماطلة في تنفيذ الإصلاحات المالية والهيكلية اللازمة، لا سيّما لناحية مكافحة الفساد وتعزيز أُطر المحاسبة والحوكمة للدولة اللبنانية، جميعها عوامل أرخت أوزارها على عامل الثقة وعلى اضطراد توافد الرساميل إلى لبنان، وأثقلت كاهل الاقتصاد اللبناني الذي أصبح اليوم بأمسّ الحاجة إلى بيئة سياسية واقتصادية خصبة وحاضنة على كافّة الصُعد.
في الواقع، لقد كثُرت في الآونة الأخيرة التحليلات والتوقعات التي قد ترسم ملامح المرحلة المقبلة في لبنان خاصةً في المدى المنظور إلى المتوسّط. عليه، فإنّ تقييم كافة المؤشرات الاقتصادية بالترافق مع قراءة معمّقة لكلّ ما استجدّ من أحداث مترابطة على الصعُد المحلية والإقليمية وحتى العالمية، تجعلنا نستنتج بأنّ ما ينتظر لبنان في المرحلة المقبلة ثلاث سيناريوات محتملة لا بديل عنها.
بدايةً مع السيناريو الأفضل (أو السيناريو التفاؤلي)، وهو رهن الاستقرار السياسي والأمني في لبنان وفي المنطقة بشكل خاص. إنّ هذا السيناريو المُحتمل مرتبط بشكل رئيسي بتأثير الانتخابات الرئاسية المقبلة في الولايات المتحدة الأميركية على المنطقة، وذلك في ضوء هزيمة، على ما يبدو مرتقبة حتى الآن، للرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني المقبل، ما من شأن ذلك أن يحمل في طيّاته ارتياحاً إقليمياً ومحلياً في ظلّ الحصار الاقتصادي الخانق على إيران وسورية ولبنان، لا سيّما أنّ المرشح عن الحزب الديمقراطي جو بايدن يعتقد أنّ الاتفاق النووي كان يخدم مقصده في ما يتعلّق بعرقلة مسارات طهران المحتملة إلى القنبلة النووية وأنّ موقف الولايات المتحدة الأميركية أصبح أسوأ بعد انسحابها من الاتفاق.
في الواقع، إنّ سيناريو كهذا ينبغي أن يترافق حُكماً مع برنامج إنقاذ شامل ينخرط فيه صندوق النقد الدولي من أجل إعطاء مصداقية للمساعي الإصلاحية المطروحة وتعزيز القدرة على استقطاب المساعدات المرجوّة من الخارج. إذ لا يمكن أن يتحقق النهوض الاقتصادي الآمن في لبنان من دون المساعدات الخارجية نظراً إلى الثغرات التمويلية الكبيرة التي أصبح لبنان يعاني منها اليوم، ودور صندوق النقد بشكل خاص محوري كونه الضمانة الأساسية للحكومة لتنفيذ الإصلاحات الموعودة، كما يشكّل الضمانة للدول المانحة بشكل عام وتحديداً دول الخليج. ومع أنه لم يجرِ الكشف حتى الآن عن حجم الدعم المالي الذي سيقدّمه الصندوق، إلا أنّ لبنان يحاول الحصول على عشرة أضعاف حصته في صندوق النقد الدولي والمقدّرة بحوالي 880 مليون دولار، مما قد يعوَّل عليه لتحرير جزء من مساعدات مؤتمر «سيدر» والتي تصل في الإجمالي إلى 11 مليار دولار. وبالتالي فإنّ ضخ ما يوازي 20 إلى 25 مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة كفيل بإحداث صدمة إيجابية تُعيد ضخّ الدمّ من جديد في شرايين الاقتصاد الوطني المتعطّشة إلى السيولة بالعملات الأجنبية، ما من شأن ذلك أن يُؤمّن الاستقرار الاقتصادي المنشود والقادر على إخراج لبنان من فخّ الركود في فترة لا تتجاوز العامين، وذلك بالتوازي مع استقرار مالي ونقدي من شأنه أن يوحّد أسعار الصرف عند مستويات تعكس القيمة الحقيقية لليرة اللبنانية مقابل الدولار والتي لا تتجاوز عتبة الـ 5.000 ليرة لبنانية للدولار الأميركي الواحد كحدّ أقصى. وهو ما كانت تطمح إليه فعلياً خطة الإصلاح الحكومية التي أُقرّت في نيسان المنصرم، قبل أن تنقلب عليها الحكومة مؤخراً وتنطلق إلى البحث عن خطة بديلة، شرط أن يتغيّر النهج السائد في طريقة التعامل مع الملفّ الاقتصادي وإطلاق جدّي وسريع لعجلة الإصلاحات الهيكلية المطلوبة.
وفق تقديراتنا، فإنّ سيناريو كهذا لا يبدو أنه قد يتحقق في المدى المنظور، بل قد يحتاج إلى ما يقارب العام على الأقلّ حتى تتبلور معالم أيّ تسوية مرتقبة في المنطقة بشكل عام، لا سيّما أن الإدارة الجديدة لبايدن، في حال فوزه، لن تكون قادرة بهذه السهولة على عكس نتائج سياسات ترامب المتشدّدة التي غيّرت المشهد السياسي الإيراني بطرق تجعل الدبلوماسية أكثر صعوبة في المستقبل، خاصّةً أنه من المرجح أن يبقى إرث ترامب بسياساته الخارجية رابضاً لفترة ليست بقصيرة بعد رحيله. والسؤال الذي يُطرح هنا، هل أنّ الاقتصاد اللبناني قادر فعلياً على الصمود لعام أو أكثر؟
في الواقع، إنّ الإجابة على هذا السؤال تضعنا أمام السيناريو الثاني، أو سيناريو المراوحة، وهو الأكثر احتمالاً حتى هذه اللحظة في ظلّ هذا التراخي المُستهجن من قبل الدولة اللبنانية. ويفترض هذا السيناريو أنّ لبنان لن يحقّق أي خرق جدّي على صعيد الإصلاحات الهيكلية الضرورية أو حتى على صعيد مفاوضاته مع صندوق النقد الدولي لا سيّما في ظلّ غياب التوافق على أرقام الخسائر المالية بين مختلف العملاء الاقتصاديين حتى الآن، وبالتزامن مع فرضية أنّ لبنان باقٍ في عين العاصفة الإقليمية، أيّ دون تغيير ملموس في السياسة الأميركية المتّبعة في المنطقة في ما يخص ملفات إيران وسورية وحزب الله. وهو ما ينطبق فعلياً في حال فاز دونالد ترامب لولاية ثانية أو حتى لا تبدو هذه الفرضية مستبعدة نظرياً في حال فاز منافسه جو بايدن الذي على ما يبدو ليس بوارد التراجع عن «قانون قيصر» أقلّه في المدى القريب، وهو الذي يشارك ترامب في العديد من وجهات النظر حول السلوك الإقليمي لإيران والاقتناع بأنه لا ينبغي السماح لإيران أبداً بأن تصبح دولة مسلّحة نووياً. في ظلّ هذا السيناريو، فإنّ احتياطيات مصرف لبنان الأجنبية والبالغة اليوم حوالي 20 مليار دولار (دون احتساب احتياطيات لبنان من الذهب والمقدّرة بحوالي 16 مليار دولار)، ستبقى عرضة للاستنزاف المستمرّ منذ ما يقارب العام نتيجة تمويل حاجات الاقتصاد الوطني الأساسية من النفط والقمح والأدوية. عليه، فإذا اعتبرنا بأنّ حاجات لبنان من العملات الصعبة تُقدّر بحوالي 10 مليارات دولار سنوياً (بعدما تقلّصت إلى النصف في ظلّ التراجع الملحوظ في حجم الاستيراد)، فإنّ احتياطيات المركزي قد تكفي «نظرياً» لما يقارب العامين حتى تُستنزف بالكامل.
غير أنّ هذا الاستنزاف التدريجي في الاحتياطيات الأجنبية ستكون له تداعيات خطيرة على سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي وبالتالي على القدرة الشرائية ومعدلات البطالة ونسب الفقر المدقع، بحيث من المتوقع أن يتّبع سعر الصرف مساراً تقلبيّاً تصاعدياً ليبلغ مستويات قياسية وهمية قد يصعُب توقّع سقوفها، لا سيّما أن العوامل الهيكلية التي تساهم عادةً في تخفيض سعر الصرف في السوق السوداء تبدو غائبة تماماً اليوم، أولّها الحاجة إلى عرض أو ضخّ للدولار عن طريق توافد رساميل من الخارج على شكل ودائع أو قروض أو مساعدات أو هبات. ثانيها، كبح الطلب على الدولار نتيجة تعزّز عامل الثقة بالليرة اللبنانية (والطلب، بالعكس، إلى ارتفاع نتيجة طبع كميات كبيرة من الليرات لتمويل حاجات الدولة). وثالثها، تدخّل للمصرف المركزي في السوق نتيجة تعزّز احتياطياته بالعملات الأجنبية (وهو اليوم غير قادر فعلياً على المراوغة في ظلّ الضغط المستمرّ على احتياطياته نتيجة تمويله حاجات لبنان الأساسية). وبالتالي، فإنّ كلّ محاولات القمع أو الملاحقات القضائية والأمنية التي يمكن أن تطال صرافي السوق السوداء، وإنْ تبقى ضرورية منعاً لتفلّت السوق، لن تساهم في خفض ملموس في سعر الصرف طالما أنّ قوى العرض والطلب تتصارع على حلبة سوق الصرف والغلبة المضمونة حتى هذه اللحظة للطلب الشرس على الدولار الأميركي. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ حجم سوق الصرف السوداء في لبنان لا يتعدّى 15% من إجمالي السوق، إلا أنها تبقى هي المتحكّمة في سعر الصرف الموازي، كونها الجهة الوحيدة القادرة اليوم على توفير الأوراق النقدية بالدولار الأميركي، مع العلم بأنّ المصارف اللبنانية قادرة على توفير هذه الأوراق النقدية من خلال الأموال المحوّلة حديثاً أو «الأموال الطازجة» الوافدة عبر حسابات مصرفية خاصة تسمّى بالحسابات الخارجية، إلا أنّ هذه الأوراق النقدية تتجّه إما إلى المنازل أو تُحوّل مباشرةً إلى الليرة اللبنانية في السوق السوداء للاستفادة من سعر الصرف المرتفع. من هنا، وفي ظلّ سيناريو كهذا، فإنّ لبنان قد يلجأ مُرغماً إلى «تسوّل» بعض المساعدات الإنسانية من مواد نفطية وغذائية وطبّية، كحدّ أقصى، إذا ما طالت فترة المراوحة.
أما السيناريو الثالث، أيّ السيناريو الأسوأ (أو السيناريو التشاؤمي)، فهو قابل للتحقّق إذا ما طالت فترة السيناريو الثاني (أيّ سيناريو المراوحة) لأكثر من عام ونصف العام، أو حتى إذا ما ترافق السيناريو الثاني مع مواجهة عسكرية قريبة قد تنطلق من جبهة الجنوب اللبناني (وإنْ تبدو مستبعدة في الوقت الراهن)، أو تزامن مع اضطرابات سياسية وأمنيّة في الشارع بين مختلف مكوّنات المجتمع السياسي اللبناني قد تدفعنا باتجاه «الفوضى الخلّاقة»، أو مع اضطرابات اجتماعية قد تدفع إلى ارتفاع معدّل الجريمة وحالات النشل والسرقة، أو حتى قد تدفع بالحكومة الحالية إلى الاستقالة تحت ضغط التحركات الشعبية في الشارع إذا ما استمرّ الوضع الاقتصادي والمعيشي في التردّي، ما يعني الدخول في فراغ سياسي طويل قد يكون مدمّراً، لا قدّر الله، لما تبقّى من أنقاض للاقتصاد اللبناني.
إنّ هذا السيناريو، للأسف، قد تردّد صداه في الآونة الأخيرة في أروقة بعض الباحثين الدوليّين تحت مسمّى «صَوْمَلة» لبنان، أيّ تحويل لبنان إلى صومال ثانٍ. إلا أنّ تفادي سيناريو كهذا ممكن جدّاً وهو يتطلّب منّا أقصى درجات الوعي والحكمة، مع إجماع داخلي وانخراط ملائم لكافة قوى المجتمع اللبناني، ومع الحاجة إلى تقديم كلّ التنازلات الملحّة وتخفيض منسوب التباينات وتعزيز القواسم المشتركة في ما بيننا، ناهيك عن أنّ كلّ المؤشرات تدلّ على أنّ المجتمع الدولي لا يزال حريصاً على دعم الاستقرار الأمني والاجتماعي في لبنان وعلى تفادي الفوضى على الساحة المحلية.
في الختام، لا شكّ بأنّ لبنان يتأرجح اليوم بين السيناريو الأفضل (أو السيناريو التفاؤلي) الذي يبقى رهن تسوية سياسية إقليمية تحمل معها ارتياحاً نسبياً على الساحة المحلية، وبين السيناريو الأسوأ (أو السيناريو التشاؤمي) الذي يبقى لُغماً متفجّراً يتربّص بنا، ولكننا قادرون على تخطّيه بوحدتنا ووعينا الجماعي. وبانتظار ما ستؤول إليه الأوضاع في المدى القريب، فإنّ سيناريو المراوحة يبقى هو الغالب في الوقت الراهن، وبما أننا لم نعد نملك ترف الوقت، فإنّ أيّ تلكّؤ في اتخاذ كافّة الإجراءات اللازمة لكسر حلقة المراوحة، قد يكون استنزافياً ويجرّنا في نهاية المطاف نحو سيناريو هو أكثر ما نخشاه، نظراً لتداعياته المؤلمة على الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي في البلاد. من هنا، ينبغي أن نحافظ على إيماننا رغم صعوبة ودقّة الوضع الراهن دون أن ننسى أننا مررنا بفترات عصيبة في تاريخ لبنان الحديث وكنّا نقول في كلّ مرّة أنها آخر الدنيا وقد استطعنا أن نتجاوز هذه الخضّات مع الوقت بصلابتنا وعقيدتنا، دون أن نغفل للحظة بأنه «ليس عاراً أن نُنكَب، ولكنه عارٌ إذا كانت النكبات تحوّلنا من أشخاص أقوياء إلى أشخاص جبناء».