إرتفع مَنسوب التوتّر على الساحة الليبيّة بشكل خطير، بفعل إزدياد مُستوى التدخّل العسكري الخارجي في الصراع الدَموي القائم بين قوّات "حكومة الوفاق الوطني الليبيّة" برئاسة فايز السرّاجوالمَدعومة من تركيا بشكل خاص، وقوّات اللواء المُتقاعد خليفة حفتر المَدعومة من مصر ودولة الإمارات وغيرها من الدول والجهات أيضًا. فما الذي يحدث في ليبيا، وهل يُمكن أن تتطوّر الأمور من حرب بالوكالة بين مُعسكرين، إلى مُواجهة عسكريّة مُباشرة بين تركيا ومصر على الأرض الليبيّة؟ التحليل التالي يُلقي الضوء:
أوّلاً: منذ إسقاط نظام الديكتاتور مُعمّر القذّافي في نهاية العام 2011، عانت ليبيا من حال من عدم الإستقرار السياسي والأمني، وقد ساهمت التدخّلات الأجنبيّة على أرضها، في زيادة حدّة الأزمة، وفي تقسيم ليبيا إلى منطقتي نُفوذ إعتبارًا من العام 2014. وفي المرحلة الماضية، حاولت وحدات "الجيش الوطني الليبي" بقيادة اللواء خليفة حفتر الذي يُسيطر على شرق ليبيا وعلى جزء من جنوبها، السيطرة على العاصمة طرابلس، لكنّ هذه المُحاولة مُنيت بالفشل نتيجة مُسارعة تركيا إلى مدّ قوّات "حُكومة الوفاق" المُعترف بها من قبل الأمم المُتحدة، بدعم عسكري كبير، بمجموعة من أحدث الأسلحة، الأمر الذي دفع الحلف الداعم لحفتر، لإتخاذ قرار مُماثل يقضي برفع الدعم العسكري للقوات الحليفة لها في ليبيا، وكذلك بإرسال القاهرة وحدات من الجيش المصري إليها، بعد إزالة العقبات القانونيّة أمام هذه الخُطوة.
ثانيًا: صحيح أنّ مصر التي تُواجه أكثر من أزمة حاليًا، أبرزها خطر الجماعات الإرهابيّة في صحراء سيناء، وخطر تآكل حصّتها من مياه نهر النيل بفعل خطّة إثيوبيا لتعبئة سدّ النهضة الكبير بدون إتفاق مُسبق، لا ترغب بإضافة مُشكلة أمنيّة خطيرة إلى مشاكلها المُتعدّدة، إلا أنّ الأصحّ أنّ الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي مَدين لدعم كلّ من الإمارات والسعوديّة له، وهو مُلزم بمُساعدة حليفيه الخليجيّين في صراعهما المَفتوح مع تركيا، خاصة وأنّ الجميع مُتوافق على مُواجهة التوسّع التركي في المنطقة، وعلى رفض إقامة أيّ نظام له علاقة بشكل أو بآخر بالإخوان المُسلمين. كما أنّ الرئيس المصري يأمل أن يتحوّل اللواء حفتر إلى حليف إستراتيجي له–في حال تمكّن من بسط نُفوذه في ليبيا، وذلك لضرورات إستراتيجيّة على مُستوى المنطقة ككلّ.
ثالثًا: يستعدّ "الجيش الوطني الليبي" بقيادة اللواء حفتر، لخوض معركة كبيرة مع قوّات "حُكومة الوفاق"، بهدف إقتحام الجُفرة وسرت اللتين تُعتبران مُهمّتين للسيطرة على حُقول النفط التي تقع في الجزء الشرقي من ليبيا، وتحديدًا في برقة، مع الإشارة إلى أنّه ليس بسرّ أنّ أموال بيع وتصدير النفط ضروريّة لتمويل أيّ سُلطة تنفيذيّة في ليبيا التي تتمتّع بأكبر إحتياطي للنفط في القارة الإفريقيّة. من جهة أخرى، إنّ الصراع على الأرض الليبيّة مُرتبط بمصالح دول المنطقة النفطيّة والغازيّة، حيث أنّه في تشرين الثاني من العام 2019 الماضي، وقّعت تركيا و"حكومة الوفاق" إتفاقًا لترسيم الحدود البحريّة، بشكل يُحدّد مناطق الإستثمار الإقتصادي بين أنقره وطرابلس الغرب. في المُقابل، تأمل مصر أن يؤمّن تحالفها مع ليبيا، مصالحها الإقتصاديّة والجيوسياسيّة على مُستوى إمدادات النفط والغاز.
رابعًا: إنّ إرسال قوّات من الجيش المصري لدعم هذا الهُجوم أكثر من ضروري، بعد أن زوّدت تركيا في الماضي القريب قوّات "حُكومة الوفاق" بأسلحة جديدة مُتطوّرة، جرى شحنها وإدخالها إلى ليبيا عبر ميناءي مصراتة وطرابلس، عن طريق سُفن أبحرت من تركيا. وتضمّ شحنات الأسلحة التركية خُصوصًا، مَنظومة دفاع جوّي حديثة مع أجهزة تشويش، وطائرات قتاليّة مُسيّرة عن بُعد، وصواريخ وقذائف من مُختلف الأعيرة والأحجام، إلخ. كما تنشر تركيا مجموعة من المُستشارين العسكريّين الأتراك في ليبيا، بناء على "إتفاق تعاون أمني وعسكري" جرى توقيعه نهاية العام الماضي، وهي تُرسل دوريًا أيضًا مُقاتلين سُوريّين مُوالين لها، لدعم قوات "حكومة الوفاق" على جبهات القتال.
خامسًا: إنّ إحتمال نُشوب حرب مُباشرة ومَفتوحة بين تركيا ومصر في ليبيا، ضعيف، لكنّه قائم. ويُجمع أكثر من خبير إستراتيجي على أنّ قرار التدخّل العسكري المصري في ليبيا يهدف إلى رفع مُستوى الضُغوط على "حكومة الوفاق"، وعلى من يدعمها، بحيث يُوافق الجميع على وقف للنار، وعلى قُبول الحلّ السلمي في نهاية المطاف، بمُساعدة دوليّة. لكنّ إستعراضات القُوّة المُتبادلة بين مصر وتركيا في منطقة ساخنة، قد تُؤدّي إلى إحتكاكات أمنيّة خطيرة، وقد تجرّ المنطقة إلى مُواجهة واسعة، في حال فشل المساعي الدَوليّة في لجم التوتّر، وفي إيجاد التسوية المُناسبة للجميع في الوقت الملائم.
سادسًا: بالنسبة إلى التحالفات، تستفيد "حكومة الوفاق الوطني" من دعم عسكري تركي كبير، ومن تمويل مالي قطري مهمّ. في المُقابل، وإضافة إلى دعم كلّ من مصر والإمارات بشكل خاص، ودعم السُعوديّة بمقدار أقلّ، يستفيد اللواء حفتر من دعم روسيا أيضًا، في مُفارقة لافتة في الصراع، لها علاقة في عمليّة شدّ الحبال بين موسكو وأنقره في سوريا والمنطقة ككلّ، في حين تُعارض جامعة الدُول العربيّة أيّ مُخطّطات لتقسيم ليبيا. إلى ذلك، وبعد غياب لافت عن الساحة الليبيّة، عادت واشنطن ودخلت دبلوماسيًا على الخطّ في مُحاولة لعدم تركهاخالية لتدخّل موسكو، علمًا أنّ الولايات المتحدة الأميركيّة تُعوّل على حلفائها الأوروبيّين في هذه المنطقة من العالم، وتترك الخيارات لهم. إشارة إلى أنّ الدول الأوروبيّة حريصة على الإستقرار في ليبيا، لكنّها تخشى خُصوصًا أن تنجح تركيا في السيطرة على الساحل الليبي، لأنّ هذا الأمر سيمنح أنقره القُدرة على التحكّم بالهجرة الأفريقيّة إلى أوروبا، بمُوازاة إمساكها بالهجرة السُوريّة إلى القارة العَجوز.
في الخُلاصة، يُمكن القول إنّ الصورة غير واضحة في ليبيا بعد، وهي ستتظهّر تدريجًا مع تبيان حجم التدخل العسكري المصري المُرتقب هناك، ومدى نجاح الوساطات الدَوليّة التي ستتحرّك في المُستقبل. لكنّ الأكيد أنّ الدول العربيّة تُواجه حاليًا أطماعالتوسّع التركي الأمني والسياسي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهي الغارقة في مُواجهة أطماع التوسّع الأمني والسياسي الإيراني في المنطقة عينها!.