منذ أضحى ملفّ الحياد شاغل الدنيا والناس في البلاد، متفوّقاً حتى على "مآسي" اللبنانيين الكثيرة والمتفاقمة اقتصادياً واجتماعياً وصحياً، بعيد طرحه في إحدى عظات البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، يلتزم "حزب الله" صمتاً مُطلَقاً إزاءه، ترجمةً ربما لمبدأ "النأي بالنفس".
على مدى ثلاثة أسابيع، لم يصدر عن "الحزب" أيّ موقفٍ واضحٍ من طرح البطريرك الراعي المستجِدّ، ولو أنّ كثيرين يعتقدون أنّ موقفه "السلبيّ" منه، أو غير المؤيّد بالحدّ الأدنى، معروفٌ سلفاً، وهو انطباعٌ ولّدته أصلاً تعليقات بعض المقرّبين منه أو المحسوبين عليه، ممّن يقول البعض إنّهم لم يدلوا بدلوهم إلا بعد أخذ "مباركة" القيادة الحزبيّة.
ولعلّ "التعليق" الأول الذي صدر عن رئيس كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب محمد رعد، تحت عنوان "اطّلعنا عليه ونتابع ردود الفعل"، في إشارةٍ إلى نداء الراعي، جاء ليعزّز نظرية "الصمت"، "صمت" بدا أنّ "الحزب" كسره ظاهرياً، لكنّه لم يكسره في المضمون، ولا يبدو أنّه سيفعل في القريب العاجل...
صمتٌ مدروس؟!
كثيرةٌ هي الأسباب والاعتبارات التي دفعت "حزب الله" إلى عدم التعليق على ما سُمّيت "مبادرة" البطريرك الماروني بشارة الراعي حول الحياد، ليس أولها "ارتيابه" من الطرح بحدّ ذاته، ولا آخرها عدم رغبته بالدخول في "سجالٍ" مع البطريركية المارونيّة، التي يحرص على إبقاء "الحوار" معها مفتوحاً.
ثمّة من يقول في هذا السياق، إنّ "الحزب" الذي لم "يبلع" حتى الآن، "إعلان بعبدا" الشهير، الذي "تعمّد" البعض تحويله من مجرّد بيانٍ حواريّ لا يقدّم ولا يؤخّر، إلى "وثيقة تاريخيّة" تستهدف في مكانٍ ما موقعه في المعادلة، وهو بالتالي يبدو "مُرتاباً" من إعادة الكرّة بطرحٍ قد يبدو "مغرياً" في الظاهر، ولكنّه يحمل الكثير من "التعقيدات" في الباطن.
وبمُعزَلٍ عن الموقف من طرح البطريرك الراعي، ومدى القدرة على تبنّيه في البازار الإعلاميّ، كما هو حاصلٌ اليوم، يعتبر البعض أنّ لدى "حزب الله" مشكلة جوهريّة مع مصطلح "الحياد"، في عزّ "الحروب الباردة" القائمة اليوم، وفي ضوء "الصراع" الأممي الذي لا يعتبر "الحزب" أنه يدور بين محوريْن ينتمي إلى أحدهما فحسب، بل بين الخير والشرّ، وهو ما يتطلّب "انحيازاً" إلى الحقّ بالدرجة الأولى، خصوصاً أنّ لبنان "وُرّط" في هذا الصراع، شاء من شاء وأبى من أبى، بدليل "الحصار" الدوليّ المفروض عليه، وفق هذه القراءة.
لكنّ "ارتياب" الحزب هذا من "الحياد" بصورةٍ عامّةٍ ليس "الدافع" الوحيد لصمته المستمرّ فصولاً، بل قد يأتي بدرجةٍ ثانويّة مقارنةً بحرصه على عدم "تعكير" صفوّ العلاقة التي بناها مع بكركي، وبالتالي رفضه الدخول في أيّ "صدامٍ" مع البطريرك الماروني، على رغم ما يُحكى عن استياءٍ في صفوف أنصار "الحزب" على الأقلّ من تصريحات الأخير، سواء حين تناول "الحزب" بوضوح في بعض أحاديثه الإعلاميّة، أو حتى حين أراد تأكيد "استثناء" الصراع مع إسرائيل من "حياده"، قائلاً إنّ بين لبنان وإسرائيل عداوة "للأسف".
"الفيصل" في الردود!
لكلّ هذه الاعتبارات والأسباب "المدروسة"، يلتزم إذاً "حزب الله" الصمت المُطلَق على مستوى طرح "الحياد"، من دون أن يعني ذلك "تجاهلاً" له، أو حتى "نأياً بالنفس" عنه، باعتبار أنّ "عين" الحزب مشدودة على ردود الفعل، وهو ما أوحى به النائب رعد بوضوح بقوله "نتابع ردود الفعل".
ويشير العارفون في هذا الصدد إلى أنّ عين "حزب الله" على ردود الفعل، لأنّها "الفيصل" الذي سيحدّد مسار الطرح في نهاية الأمر، فإما تؤدّي إلى "طيّ صفحته" بعد أن يكون أدّى قسطه للعُلا إعلامياً وسياسياً، من دون أن يضطر "الحزب" إلى الدخول على خطّه، وإما تؤدّي ردود الفعل إلى "توسيع" حجم الطرح، كما حصل مع "إعلان بعبدا" سابقاً، فيكون عليه أن "يتدخّل" في الوقت الذي يختاره هو.
وبمُعزَل عمّا إذا كانت "الكفّة" تميل نحو الخيار الأول أو الثاني، ثمّة من يرى أنّ "الحزب" كان مرتاحاً لمواقف حليفه رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل الذي نجح في "تبديد" هواجسه بالبيان الواضح الذي تلاه بعد لقاء الراعي في الديمان، والذي كان واضحاً لجهة وجود "شروط" لتطبيق مبادرة الراعي، تتداخل فيها العوامل الداخلية والخارجية، مع التشديد على وجوب الحفاظ على "عناصر القوة"، ولو أنّ "العونيّين" يصرّون على وضع ما قاله باسيل في خانة "عناصر إنجاح" المبادرة، لا "الشروط"، وذلك انطلاقاً من الهدف "النبيل" الكامن خلف نداء الراعي في الأساس، والمنسجم مع مقولة "لا شرق ولا غرب" اللبنانيّة التاريخيّة.
وتبقى النقطة الأهمّ في "ردود الفعل" التي يراقبها "حزب الله" بهدوء تتعلق بـ "التوافق الوطنيّ" المطلوب قبل السير بأيّ استراتيجيّةٍ وطنيّةٍ بهذا الحجم، بمُعزَلٍ عن الخلفيّات الحقيقيّة لها، وكلّ ما يُحكى عن بعض "التناغم" من هنا وهناك حولها. ويقول العارفون إنّ "الحزب" لن يمانع وضع هذا الملفّ على طاولة "الحوار"، تماماً كما وُضِع في السابق ملفّ الاستراتيجيّة الدفاعيّة البالغ "الحساسيّة" بالنسبة إليه، بل هو يرى أنّ الكرة ستُرمى في هذه الحال في ملعب خصومه الذين "يقاطعون" دعوات الحوار، فيما يحرص هو على "الالتزام" بها، أياً كان عنوانها وشكلها ومضمونها.
من "يضبط الإيقاع"؟!
لا يحبّذ "حزب الله" الدخول في نقاشٍ حول "الحياد"، هو الذي يقول البعض إنّه قبل بـ"النأي بالنفس" و"إعلان بعبدا" في السابق على مضض، وليس جاهزاً لـ"ثالثةٍ ثابتةٍ" مشابهة، في وقتٍ يرى أنّ لبنان جزءٌ لا يتجزّأ من الحرب "الأمميّة" التي تشهد بعض تجلياتها أصلاً داخل الساحة اللبنانية.
لكنّ "الحزب" لا يريد أيضاً الدخول في "صدامٍ" مع البطريرك الراعي، وهو قد يزوره متى وجد الوقت مناسباً لذلك، علماً أنّ الحوار بين الجانبين لم يُقفَل، كما يؤكّد العارفون، ولو أنّه "يُجمَّد" بين الفينة والأخرى، للكثير من الاعتبارات والأسباب، على وقع بعض "التصريحات" التي تفتح باب "الاستنتاجات" التي تبتعد عن الحقيقة في الكثير من الأحيان.
وبين هذا وذاك، يبدو "الصمت" الخيار الأسهل والأفضل لـ"الحزب"، خصوصاً إذا ما تولّى "حلفاؤه" مهمّة "ضبط الإيقاع"، مهمّة يبدو أنّ باسيل نجح فيها هذه المرّة، وإلى حدّ بعيد...