في الشكل، هي مواجهة بين إسرائيل و»حزب الله»، أي إيران، وقعت أو ستقع «حتماً» كما جاء في بيان «الحزب» أمس. ولكن، في العمق، هي تحمل ألغازاً ومضامين أعمق بكثير. وإذا تطوَّرت، سيمكن الاستنتاج أنّ الوقت قد حان لتحوّلات استراتيجية على مستوى الشرق الأوسط بكامله.
في خريف العام الفائت، إستغرب كثيرون الحراك غير المألوف للطاقم العسكري الأميركي في الشرق الأوسط. تحديداً، لاحظوا أنّ الزيارات التي يقوم بها الضبّاط الأميركيون الى إسرائيل تكثَّفت في شكل استثنائي، وعلى مستويات رفيعة جداً. وبين هؤلاء الضباط، قائد القيادة المركزية الجنرال كينيث ماكنزي.
يومذاك، كشف ماكنزي في إسرائيل مغزى هذا الاستنفار بقوله: إيران تخطِّط لهجوم واسع في الشرق الأوسط، من نوع الهجوم الذي شنّته على منشآت النفط السعودية في أيلول الفائت. وتولّى رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو إيضاح أقوال ماكنزي، فأضاف: «إيران لا تخطط لهجوم واحد، بل لهجمات عدّة»، وهي تريد استهداف إسرائيل.
وبناء على هذا الاستنتاج، بدأت إسرائيل تستعدّ لتطورات على الحدود الشمالية. وهنا، جالَ وزير الدفاع آنذاك نفتالي بينيت، مع نتنياهو، وخاطَب «القوى الإيرانية» الموجودة في سوريا بالقول: «لن تتمكنوا من إيذائنا. ستجدون في إسرائيل جيشاً قوياً وحازماً».
وفيما كان الإسرائيليون يسدِّدون الضربات لمواقع وأهداف إيرانية في سوريا، أو في طريقها إلى لبنان، جرى تسليط الضوء على مسألتين: الأنفاق التي حفرها «الحزب» على الحدود وتصل إلى الداخل الإسرائيلي، والمصانع التي فيها يجري تأهيل الصواريخ لتصبح دقيقة الأهداف، والتي قيل إنها في محيط مطار بيروت ومناطق سكنية.
ولكن، في مطلع شباط الفائت، تبلورت طبيعة الاتفاق الأميركي- الإسرائيلي على مواجهة إيران. فقد زار بينيت واشنطن وعقد اجتماعات مع نظيره الأميركي مارك إسبر، تمَّ فيها إيضاح الأهداف و»تقاسم» المهمّات بين الطرفين.
كشف بينيت عن اتفاق على العمل في شكل مشترك لتعطيل مساعي إيران لإقامة ممرّ ينقل المقاتلين ومواد أخرى من الأراضي الإيرانية، عبر العراق ثم سوريا، إلى لبنان وشاطئ المتوسط. ومن خلال هذا الخطّ يقوم الإيرانيون بتقديم المؤونات والدعم للمجموعات المسلحة التي يدعمونها.
كان الوزير الإسرائيلي معترضاً على مبدأ الاكتفاء بضرب القوافل الإيرانية، وقال: «هذا لن يمنع وصول معظمها إلى لبنان. وكلما عَطّلنا قافلة دخلت 5 أخرى إلى لبنان، حتى تضاعف عدد صواريخ «حزب الله» ليبلغ 130 ألفاً. ولذلك، يجب ضرب الأهداف في الداخل لا في الطريق إلى لبنان». وأضاف: «على القوات الإيرانية أن تغادر سوريا خلال عام واحد، وإلّا فإننا سنجعل هذا البلد بمثابة «فيتنام» لهم». وفي شكل واضح وصريح، كشف بينيت عن طبيعة اتفاق التقاسم: واشنطن أخذت على عاتقها أن تتصدّى للنفوذ الإيراني في العراق، فيما يتولّى الإسرائيليون مواجهة إيران في سوريا.
وفي النهاية، يقول بينيت، هناك «بازل» متلاصق يضمُّ إيران والعراق وسوريا ولبنان، وهو الذي يَضْمَنُ إيصال الصواريخ. فإذا قمتَ بحذف قطعة منه يتفكَّك ويجفّ».
هذه المعطيات أوضحت لماذا عمد الأميركيون، قبل شهر من ذلك، إلى اغتيال اللواء قاسم سليمان، ولو في قلب بغداد، هو ونائب رئيس هيئة «الحشد الشعبي» العراقي أبو مهدي المهندس. كما أوضحت لماذا يتفرد الإسرائيليون بضرباتهم في سوريا، وسط صمت شامل.
إذاً، الأمر لا يحتاج إلى تحليلات أو توقعات: إسرائيل والولايات المتحدة تريدان إنهاء وجود إيران المسلح، وجماعاتها المسلحة في سوريا قبل خريف 2020، وإلا فإنّ حرباً مفتوحة ستنشأ هناك. أي إنّ ما تقوم به إسرائيل اليوم يحظى بتغطية أميركية، وهو يشكّل الملامح الأولى للدخول في مواجهة ستكون خطرة، بل مصيرية بالنسبة إلى دول المنطقة.
لقد أعلن نتنياهو، قبل يومين، أنّ إسرائيل «لن تقبل إطلاقاً بوجود إيران على حدودها». والمقصود هو الأجنحة العسكرية الحليفة لها، وأقواها «حزب الله». وهذا يدعم احتمال أنّ ما يجري اليوم هو تنفيذ لاتفاق إسبر- بينيت.
تريد إسرائيل الاستفادة من وجود الرئيس دونالد ترامب في البيت الأبيض لتضرب ضربتها. وواشنطن تريد استباق الانتخابات الرئاسية، ولكن خصوصاً استباق تشرين الأول المقبل، موعد انتهاء مهلة الـ5 سنوات التي يُحظَّر خلالها على إيران أن تحصل على أسلحة جديدة.
عامل ثالث ضاغط هو المناخ التفجيري في شرق المتوسط وشمال إفريقيا بين محورين دوليين وإقليميين عملاقين: الصين- إيران- تركيا- روسيا، في مقابل الولايات المتحدة وأوروبا الغربية ومصر والسعودية.
وإسرائيل منخرطة حُكْماً في الثاني، لكنها الأكثر قدرة على المناورة. فهي تريد «تقزيم» القوى الإقليمية كلها، ولا سيما منها إيران وتركيا، لتبقى هي الأقوى، فيما تشبك مصالحها بهدوء مع الصين، وترسِّخ تفاهماتها القديمة مع روسيا.
هذا المناخ التفجيري تَوقَّعه كثير من المتابعين منذ أشهر، خصوصاً بعد وصول الجميع إلى الجدران المسدودة: لبنان في انهياراته المالية والاقتصادية والسياسية والأمنية، وسوريا والعراق في تمزّقهما، وإيران في ارتباكاتها العميقة، ومعها «حزب الله» وسائر الحلفاء. وحتى نتنياهو يحتاج إلى الحرب للهروب من المحاكمة في ملفات الفساد.
عندما تكون الحرب حاجةً للجميع تصبح حتمية. والأهمّ هي أنّ الحرب هي المفتاح الوحيد لأيّ تغيير استراتيجي. ولم يتحقّق، عبر التاريخ، أي تحوُّلٍ إلّا من بوابات النار: الحروب والفتن.
هل تكون الضربات العسكرية التي عمد إليها «حزب الله»، أو سيعمد، فاتحة لتحوُّل استراتيجي معيّن؟
كيف سينعكس هذا المناخ على ملف الحدود، والمفاوضات حولها، وملف الغاز والنفط الذي يسعى الأميركيون إلى تحريكه في أقرب فرصة ممكنة؟
وما موقف الحكومة اللبنانية من هذه المواجهة، إذا تطوَّرت ودخلت على خطّها الولايات المتحدة وسواها؟ وهل ستبقى الحكومة ملتزمة تماماً موقف «الحزب»، مهما تعرضت للضغوط؟
وكيف تصمد الحكومة في وجه الضغوط ولبنان منهار ويستجدي صندوق النقد الدولي والجهات المانحة للوقوف إلى جانبه؟
أيّاً تكن الأجوبة، فالواضح أنّ «الحزب» يأخذ الأمور بمنتهى الأهمية. وربما، لذلك هو «دخل» المواجهة و«لم يدخل»، تاركاً مسألة الردّ عالقة… ولكن إلى حين.
فهل يعرف أحد لمَن ستقرع الأجراس في هذه المواجهة إذا فُتحت على مصراعيها؟ وهل يتحسّب «الحزب» لكل النتائج، فلا تستدعي القول ذات يوم: «لو كنتُ أعلم»؟