قرابة عقد من الزمن، قضاها السفير ألكسندر زاسبكين على رأس الدبلوماسية الروسية في لبنان. عشرة أعوام عاش خلالها لبنان أزمات عديدة كان أبرزها الخطر الإرهابي والأزمة السوريّة. يطوي زاسبكين هذه المرحلة ليسلّم مهامه إلى السفير الجديد الكسندر روداكوف أواخر شهر آب المقبل.
في حديث مع "النشرة"، يستذكر الدبلوماسي الروسي السنوات الماضية، معتبراً أنها "كانت دراماتيكية في الشرق الأوسط ككل، وهذا ما كان يحدّد كل نشاطاتنا في لبنان ودول أخرى"، مشيراً إلى "أننا عثرنا هنا على مشاكل كبرى أبرزها الخطر الإرهابي وخطر تفكيك الدول، لذا كان المطلوب بذل جهود مشتركة لمكافحة الإرهاب والحفاظ على وحدة الدول وحماية سيادتها"، لافتاً إلى "وجود خصوصيات في لبنان ككل دول العالم، من هنا ركّزنا على مواضيع الإستقرار والأمن، وتجاوز الأزمات الحكوميّة وتأييد الإستحقاقات الدستوريّة في هذا البلد، والحفاظ على الإجماع الدولي حول هذه القضايا خصوصاً تلك المتعلّقة بمؤسسات الدولة في لبنان".
ويوضح زاسبكين أن "المرحلة الصعبة التي عاشها البلد، تطلبت ممارسة إتصالات مكثفة مع القيادات السياسية والأحزاب، وروسيا كانت خلال هذه الفترة تتعامل بالتساوي مع الجميع في ما يخص الوضع الداخلي اللبناني، إعتماداً على مبدأ أساسي هو أنّ لبنان بلد التوازنات السّياسية، وبالتالي يجب أن نكون على علاقة جيّدة وبنّاءة مع الجميع".
"لا حرب مع إسرائيل"
بعيداً عن المراحل الماضية، وفي ما يخص الملفات الراهنة في لبنان، يجيب زاسبكين عن سؤال حول الأحداث الأخيرة التي حصلت على الحدود الجنوبية، معتبراً "أنه لا يمكننا تقييمها من الجانب العسكري، لكن إنطلاقاً من تحليل الوضع القائم، كان لدي استنتاج، لا يزال قائماً حتى اليوم، أن المعطيات الموجودة لا تدل على انزلاق الأمور إلى الحرب بين لبنان وإسرائيل، وأنا لا أتوقع التصعيد في هذا الموضوع للوصول إلى مرحلة النزاع الكبير".
ويرى أن "المواجهة بين إسرائيل ومحور المقاومة مستمرة منذ سنوات، وفي هذا الإطار دائماً ما تحصل الأحداث ضمن الخطوط الحمراء الموجودة، لذا ما يجري حتى اليوم لم يتجاوز هذه الحدود".
وفي ما يخص موضوع التجديد لقوات "اليونيفيل" العاملة في جنوب لبنان وما يُحكى عن تعديل مهامها، يشدّد زاسبكين على أن "موقف روسيا معروف، وهو أننا لا نطلب تغيير التفويض الممنوح لهذه القوات"، موضحاً "أننا نتواصل بالدرجة الأولى مع لبنان لأنه الدولة المستضيفة ونعتمد على الموقف اللبناني"، مضيفاً أن "مهمة اليونيفيل بالدرجة الأولى هي المساعدة على الإستقرار عند الحدود وعدم وقوع أي نزاع".
من هنا، يعتبر السفير الروسي أن "اليونيفيل تقوم حالياً بدورها بشكل جيد، لذا من غير المطلوب أن يتم تغييره"، منبّهاً من أنه "في حال تم التجاوب مع المطالب الداعية إلى تغيير هذه المهام، فقد نشهد تداعيات سلبيّة وتوتيراً للأجواء وهذا غير مقبول. من هنا يأتي الموقف الروسي المطالب بتجديد التفويض لهذه القوات وفق المهام الموكلة لها حالياً".
"تزوير أميركي"...
يتذكر الجميع تصريح السفير الروسي، في بداية شهر تشرين الأول الماضي، الذي اعتبر فيه أن الأميركيين يهيئون للفوضى في لبنان. واليوم، وبعد مرور أكثر من تسعة أشهر على هذا التصريح، يرى الدبلوماسي الروسي أن "هذا الموضوع لا يحتاج إلى الكثير من التحليل، لأنّه منذ فترة طويلة والجميع يرى ما حدث في عدد من الدول العربيّة وغير العربية"، معتبراً أنّها "كانت بحاجة إلى إصلاحات حقيقية وضرورية عبر الجهود الداخلية، لكن للأسف هناك دائماً محاولة لاستخدام موضوع الإصلاحات من قبل بعض الأطراف الخارجيّة لتحقيق أهدافها في هذه الدول".
بمعنى آخر، يعتبر أنه "من المعروف أن الفساد خطر كبير على كثير من الدول، لكن التدخل الخارجي يعرقل كثيراً تحقيق هذه المهمة وهذا ما يحصل في لبنان"، مضيفاً "كما هو معروف لجميع اللبنانيين، إن الفساد موجود منذ عشرات السنين والجميع يعلم العوامل التي أدّت لانتشاره، وبالتالي معالجة هذا الموضوع يجب أن تتمّ عبر إزالة هذه العوامل والأسباب وعبر تصحيح الحياة السياسية، لكننا نرى أن أميركا تتدخل هنا وتقول أنّ المسؤول عن الفساد هما إيران وحزب الله، وهذا بطبيعة الحال غير صحيح على الإطلاق وتزوير كامل للوضع. وبالتالي مسؤولية كل القوى السياسية، بغضّ النظر عن خلافاتها، أن ترفض هذا التدخل الأميركي وهذا هو الطريق الصحيح لمعالجة الأزمة".
ويشير زاسبكين إلى "أننا شاهدنا التدخّلات الأجنبية لأهداف ذاتية في عدد من الدول، بما في ذلك الدول كليبيا وسوريا والعراق، وهذا معروف للجميع، لذا المطلوب، خلال المرحلة المقبلة، من الأنظمة العربية إدراك خطورة هذه التدخلات والإعتراف بضرورة إجراء المصالحات في المنطقة، لأنّ الخلافات بينها في المنطقة مصطنعة، باستثناء الخلاف الوحيد الذي يتطلّب حلاً شاملاً وهو النزاع العربي الاسرائيلي والقضيّة الفلسطينيّة، أما الأشياء الأخرى فيمكن حلّها"، معتبراً أنه "يمكن أن نبدأ بالبحث عن حلّ من خلال مشاركة الجميع لترتيب الأوضاع في المنطقة واستعادة الثّقة ما بين الدول وبذل الجهود للعودة إلى التعاون وخاصة إعادة الإعمار في دول النزاعات".
"الإنقطاع عن الغرب والخليج"؟!
في موضوع الضغوط والعقوبات الأميركية على لبنان، يرى الدبلوماسي الروسي أن "أميركا تلجأ إلى العقوبات كوسيلة أساسية في سياساتها الخارجية، وتستخدمها تجاه عدد كبير من دول العالم بما في ذلك روسيا، لذا فإنّ الأكيد أن هذا النهج الأميركي سيستمرّ، لكن السؤال، هل هناك حدود لهذه الضغوط؟ نعم، عندما يشعر الأميركي أنه لا يحقّق كل أهدافه المطروحة، وعندما تكون نتائجها معاكسة لما يريده، كل هذا يكون حاجزاً أمام الضغوط".
ويعرض زاسبكين النموذج الروسي، مشيراً إلى أن "موسكو منذ البداية رفضت أي حديث معها بموضوع العقوبات، وعملت على الإعتماد على قدراتها الذاتية وطوّرت بعض فروع الإقتصاد بصورة أسرع، فبدأت بموضوع تفعيل النظام المصرفي الوطني، والنقطة الثانيّة هي تطوير الزراعة، وثالثاً تطوير الصناعات وخصوصاً التكنولوجيّة منها، ورابعاً تطوير العلاقات مع الدول التي لا تشارك في العقوبات الأميركيّة".
لبنانياً، يلفت زاسبكين النظر إلى أن "لبنان خلال مرحلة معينة فاوض الأميركيين على موضوع العقوبات وهذا شأن لبناني، لكن الأكيد أنّ كل دولة، في هذه الظروف التي يعيشها البلد، يجب أن تطور إنتاجها المحلي، وتتخذ الإجراءات اللازمة لزيادة فعاليّة القطاع المصرفي والصناعي والتكنولوجي، وكل ما هو موجود من قدرات ذاتيّة في كل المجالات، وإضافة إلى ذلك يجب تطوير العلاقات مع الدول العربيّة والغربيّة والشرقيّة ومع جميع دول العالم".
من هنا يتطرق إلى موضوع التوجّه شرقاً، معتبراً أن "الضغوط الأميركية تعرقل هذه الحلول خصوصاً في موضوع تطوير العلاقات مع الدول، لأنه على ما يبدو، فإنّ بعض الدول الأوروبيّة والخليجيّة تحدّد موقفها إنطلاقاً من الموقف الأميركي، لذا بطبيعة الحال يجب إيجاد تعويض عبر البحث في الإتجاهات الأخرى. من هنا طُرح موضوع الإتجاه شرقاً، مع التشديد على أنّ هذا لا يعني قطع العلاقات مع الأوروبيين ودول الخليج، فهذا الموضوع ضروري وأساسي وتقليدي في هذا البلد. بمعنى آخر يجب أن يتم البحث عن التكامل في هذا الإطار".
موقف إيجابي من الحكومة
على صعيد متصل، يتطرق زاسبكين إلى موضوع الحكومة الحالية، معتبراً أن "روسيا ليست الجهّة المخوّلة تقييم عملها، لكن الأكيد أنها هي الجهة الرسمية في البلاد، وعلى الجميع أن يتعاون معها"، مشدّداً على أن "موقفنا منها إيجابي".
وفي موضوع العلاقات الإقتصاديّة بين بيروت وموسكو، يشير السفير الروسي إلى أن "ما نريده هو أن تكون الحركة الاقتصاديّة طبيعية ومتوافقة مع المعايير المعروفة دولياً، على سبيل المثال أن تكون الشراكة عبر عرض المشاريع والمناقصات والتي يمكن لشركات روسيّة أن تشارك بها"، موضحاً أن "روسيا ليست من الدول المانحة التقليديّة للبنان".
"نقف إلى جانب سوريا"
ينتقل زاسبكين للحديث عن الأوضاع السوريّة حالياً في ظل قانون قيصر الأميركي، معرباً عن إقتناعه بأن "الشعب الذي انتصر على الإرهاب، خلال معركة طويلة، والدولة التي وقفت موقفاً صامداً أمام الإرهاب والتدخلات الخارجية، ستنتصر على محاولات التجويع التي تجري الآن"، مشيراً إلى أن "قانون قيصر هو حلقة من مسلسل العقوبات، ونحن نقف إلى جانب سوريا في هذه المعركة الإقتصاديّة، وهي دولة غنيّة بالموارد وبالمهارات الموجودة لدى الشعب وقادرة على تطوير الإنتاج المحلي، وبالتالي رغم كل الصعوبات أنا مقتنع بأنّ سوريا سوف تتحمل عبء العقوبات وهي مشكلة مشتركة بين عدد من الدول، الّتي وجب عليها التضامن في وجه محاولات فرض الإرادة من خلال إنتهاك الشرعية الدولية".
مرحلة إنتقالية
يختم زاسبكين حديثه، متوقعاً أياماً صعبة على المنطقة في ظلّ المرحلة الإنتقالية التي تعيشها دولها، معتبراً "أنها ستكون طويلة ومن الصعب أن ننتظر حلولاً سريعة لما يجري فيها"، مشيراً إلى أنّها "ستمر عبر صراعات ونزاعات، وروسيا تسعى للحفاظ على ما تبقى من الشرعية الدولية"، مشدداً على أن "المقبل من الأيام يتطلب توحيد الجهود بين جميع الدول التي تعتمد على سيادتها وثوابت القانون الدولي".