مع تقدّم المجتمعات وتطورها وازدياد حاجة المواطن الى الخدمات المختلفة وارتفاع منسوب الوعي المجتمعي، إذا صح التعبير، وتمسّك الفرد بحقوقه الطبيعية ونضاله الدائم لتحصينها وتطويرها، ومع تزايد نسبة الأمراض وظهور أمراض وأوبئة جديدة ارتفعت معها الحاجة الى الخدمات الصحية والاستشفائية، عملت مختلف دول العالم على تقديس حق الطبابة والاستشفاء الذي يدخل ضمن حق المواطن في الحياة الكريمة والذي تحترمه وتصونه الإتفاقيات والدساتير الدولية.
في لبنان، وعلى مر السنوات، تكرر السلطة حديثها عن حماية الأمن الصحي، وهناك من يُطالبها باستمرار بضرورة تحصين الأمن الصحي وتأمين الرعاية والتغطية الصحية للمواطن اللبناني. وإذا كان هذا الطلب البديهي والمطبّق من دون مِنّة من أحد في دول العالم أمراً ضرورياً وواجباً في الظروف العادية، فإنه يصبح أولوية مطلقة في ظل الظروف الإقتصادية والمعيشية الصعبة كتلك التي يعانيها وطننا اليوم، فإذا وضعنا جانباً خطر وباء كورونا المستجد، فإنه وبسبب سوء النظام الغذائي المتأثر بتعثّر المواطن مالياً وبتراكم العوامل البيئية وتأثيرات الأزمة وانعكاسها السلبي على صحة المواطن بنحو مباشر او غير مباشر، من الطبيعي ان ينعكس هذا الامر على ارتفاع عدد المرضى والمحتاجين للعناية الطبية.
لطالما اعتبر لبنان مستشفى الشرق الأوسط، ومركزاً للرعاية الصحية إذا صَح القول، يقصده الأخوة العرب وغيرهم نظراً لتفوّقه في هذا المجال، ولأنّ القطاع الصحي ومؤسساته جزء لا يتجزأ من الواقع الإقتصادي الذي لامَس الانهيار منذ أشهر لناحية ارتفاع الأسعار وعدم ضبط سعر صرف الدولار وغياب السيولة المالية لدى المواطن (المريض) وتَوجّه بعض المرضى الى تأجيل أعمال طبية أحياناً أو اللجوء للعلاج على نفقة وزارة الصحة او الجهات الضامنة على مختلف أنواعها، فكان لا بد للقطاع الصحي من ان يتأثر سلباً مع تضاؤل دور الدولة في المقابل أو انكفائها وعدم تدخّلها كما يلزم، والتي هي في الاساس لا تبسُط يدها كما يجب لدعم هذا القطاع. وللخروج من النظريات، وبعد توصيف الواقع، فإننا نقترح عدداً من الخطوات التي قد تساهم في إنقاذ هذا القطاع الحيوي وتأمين استمراريته:
دعم الدولة للقطاع الصحي مالياً أسوة ببقية القطاعات الحيوية (تعليم وأمن وغذاء وزراعة وصناعة...) من خلال خطة مرحلية للفترة المتبقية من السنة الحالية.
1 ـ تسديد كافة المستحقات العائدة للمستشفيات منذ العام 2012 حتى العام 2019 للمساهمة في تأمين استمرارية تلك المؤسسات، مع العلم أنّ تلك الديون فقدت قيمتها نتيجة تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الاميركي.
2 - وضع خطة لدعم الصيانة الخاصة بالآلات والمعدات الطبية التي باتت كلفتها خيالية مع ارتفاع سعر صرف الدولار.
3 - التباحث مع البنك الدولي والتعاون معه للحصول على قروض ميسّرة بضمانة البنك المركزي لدعم القطاع الصحي (مع الاشارة الى انّ البنك الدولي مستعد للتعاون، وهو ما لَمسته وسمعته من القيّمين في البنك خلال لقاءات عدة).
4 ـ تخصيص المستشفيات بسلفات مالية شهرية عن المؤسسات الضامنة (القوى العسكرية، وزارة الصحة، الضمان الاجتماعي وتعاونية موظفي الدولة) لهدفين: الاول عدم تراكم المستحقات للمستشفيات من جهة والثاني يساهم في استمرار عملها من خلال حصول المستشفيات شهرياً على مستحقاتها او على بعض منها، من جهة ثانية.
5 ـ الإلتفات الى ملف المستلزمات الطبية والأدوية نظراً لأهميته من خلال القيام بخطوات، منها على سبيل المثال:
- تشديد الرقابة على عملية استيراد وتصدير المستلزمات الطبية والأدوية لمنع التهريب.
- إلزام شركات المستلزمات الطبية والأدوية بتغطية نسبة 100 % بالعملة الوطنية بدلاً من 85 %.
- دعم المستلزمات الطبية والأدوية على أن تكون التغطية 100 % كون مشتريات المستشفيات تتم بالدولار الأميركي حصراً.
- قيام المؤسسات الضامنة بتأمين المستلزمات والأدوية (للأمراض المستعصية) بنحو مباشر للمستشفيات.
6 ـ إحياء وتفعيل عمل لجنة عليا للصحة في لبنان تكون مهمتها العمل على إيجاد الخطط وابتكار الحلول والإقتراحات المناسبة لحماية القطاع بالتواصل مع المعنيين.
ربما حان الوقت لكي يَعي الجميع أهمية القطاع الصحي ويتنبّه للمخاطر التي تواجهه وللهواجس الحقيقية للقيّمين عليه والعاملين فيه، وإبعاد شبح الإقفال الحتمي الذي ينتظر المؤسسات الطبية إذا لم يتم التدخّل بحزم وبإجراءات عملية من خلال خطة طوارىء مرحلية واضحة، تعيد الى هذا القطاع حيويته وتمنحه الحياة ليقوم بدوره في الرعاية والعناية الصحية والاستشفائية، فلا صحة وسلامة لوطن مؤسساته الصحية عليلة وتحتاج لعناية فائقة، والأمن الصحي ليس شعاراً يُشفى المرء بمجرد سماعه، بل هو خدمات مؤمنة يطمئن المواطن الى وجودها واستمراريتها.