لم يسبق لمصير الشرق الاوسط أن ارتبط بالانتخابات الرئاسية الاميركية كما هو حاصل اليوم. ليس فقط بالنسبة الى مسار العلاقة الاميركية - الايرانية واحتمالات التفاوض حول البرنامج النووي الايراني، وإنما أيضاً حول الملف الاسرائيلي - الفلسطيني واستتباعاً حول العلاقات الاسرائيلية - العربية لجهة مسار التطبيع الذي باشَرته بعض الدول.
ورغم التقدم الكبير الذي تعطيه نتائج استطلاعات الرأي للمرشح الديموقراطي جو بايدن، الّا انّ احداً لا يستطيع الرهان منذ الآن على النتيجة، خصوصاً انّ الوقت المتبقّي قادر على ان يحمل مفاجآت غير محسوبة، لا سيما انّ القاعدة المؤيدة للرئيس دونالد ترامب ما تزال صلبة.
وقبل نحو ثلاثة اشهر من موعد فتح صناديق الاقتراع، تظهر نتائج استطلاعات الرأي التي نشرتها شبكتا «ان. بي. سي» و»سي. إن. إن»، انّ بايدن في صدارة 5 ولايات تعتبر حاسمة، وكان ترامب قد فاز بها وهي: اريزونا وفلوريدا وميشيغين وبنسلفانيا وويسكانسن.
لكنّ ترامب الذي كان قد علّق بالقول انه مقتنع بأنّ التاريخ سيعيد نفسه، عمدَ الى تبديل خطابه القديم حيال جائحة كورونا، معتبراً انّ الوضع سيسوء قبل ان يتحسّن مجدداً. وهو ظهر أخيراً مُرتدياً الكمامة التي طالما رفضها سابقاً.
السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، والمعروف بتأييده القوي لترامب، قال في ما يُشبه الاقرار بالوضع الصعب لترامب انّ الرئيس الاميركي يمكنه الفوز بدورة رئاسية ثانية مع قليل من الانضباط في توجيه رسائله، والتركيز على السياسات التي تميّزه عن بايدن بدلاً من التركيز على المقارنة بين شخصية كل منهما.
صحيح انّ نتائج الاستطلاعات تؤثر في الشريحة المتأرجحة لا الشريحة المتحمسة لأحد الحزبين، الّا انّ الواقع يبدو اكثر قلقاً لترامب. ففي الولايات المتحدة الاميركية زهاء 800 ملياردير، ربعهم ينشطون في دعم الانتخابات الرئاسية والتشريعية، حيث أنّ مساهمة كل واحد منهم لا تقلّ عن مليون دولار كحد أدنى في كل حملة انتخابية.
ولا نقاش في أنّ للمال تأثيراً قوياً في مسار الحملات الانتخابية، والمشكلة بالنسبة الى ترامب انّ مليارديرات قطاع صناعة النفط في تكساس يرون انّ تحالف ترامب مع ولي العهد السعودي أضَرّ بمصالحهم، ويُلقون بمسؤولية انهيار الصناعة النفطية الاميركية على إغراق السعودية الاسواق بالنفط.
أضِف الى ذلك انّ اللوبي اليهودي القوي، والذي يحظى بحضور ناشط داخل الحزب الديموقراطي، بات يميل الى وجهة نظر جون بولتن القائلة إنّ ترامب، وفي حال عودته مجدداً، سيكون قد تحرّر من عبء استرضاء ناخبيه، وسيذهب في اتجاه إعادة تصحيح علاقته مع ايران من خلال أسلوبه المثير وغير المنضبط.
لكن ثمّة مفارقة اضافية تشير الى انه حتى ولو وصلَ مرشح الحزب الديموقراطي الى البيت الابيض، فإنّ هذا الأمر لن يعني بالضرورة العودة الكاملة الى مرحلة ما قبل ترامب وكأنّ شيئاً لم يحصل.
وزير الخارجية الالمانية هايكو ماس عبّر من زاويته الاوروبية عن ذلك، محذّراً من التوهّم بأنّ هزيمة ترامب يمكن ان تؤدي الى تحول في السياسة الخارجية الاميركية. واضاف: من يراهن في اوروبا على حدوث تغيير عليه ان يعدّ نفسه لحقيقة انّ الامر لن يكون مريحاً كما كان في السابق. فالسياسة الخارجية والامنية لواشنطن تغيرت، وليس فقط منذ ان اصبح ترامب رئيساً. وهو ما يعني بالنسبة الى الشرق الاوسط انّ الادارة الديموقراطية في حال وصولها الى السلطة ستعمل على اعادة إحياء الاتفاق النووي مع ايران، لكنها ستفتح باب مفاوضات صعبة وعلى اساس خريطة جيوسياسية جديدة تلحظ تنظيماً أكثر لنفوذ ايران في المنطقة، وخصوصاً في سوريا.
ففي الدوائر النخبوية للحزب الديموقراطي اقتناع بأنّ استخدام ايران لسوريا كمركز نقل لتزويد «حزب الله» بالامدادات، إنما هذا الأمر يجب ان يتوقف. وربما هذا ما يفسّر تركيز اسرائيل غاراتها على القافلات التي تتولى نقل الشحنات الجوية الى لبنان، والأهم هذا ما يفسّر غَض النظر الروسي.
وقد ردّت ايران باتفاق أمني مع سوريا خصّص للدفاع الجوي بهدف حماية هذا الجسر الجوي، والذي يربط بين ايران و4 مطارات في سوريا، هي: دمشق، القامشلي، اللاذقية وقاعدة «تي. فور» الجوية.
وهو ما يعني ايضاً انّ الملف اللبناني الذي سينتظر ملفات اخرى اكثر اهمية بالنسبة الى واشنطن وطهران، كمِثل اليمن وممرات النفط والعراق وسوريا، سيبقى تحت الضغط لفترة لا بأس بها.
وعندما غادر وزير الخارجية الفرنسية جان ايف لودريان بيروت، كان قد ترك خلفه عاصفة من التعليقات والتحليلات حيال التحذيرات القاسية ممّا قد ينتظر لبنان في حال عدم فتح كوّة لتأمين «إنعاش اصطناعي» يحتاجه. لكنّ الحكومة اللبنانية لم تلتقط الرسالة كما يجب، على ما يبدو.
وفي كواليس المجموعات المتخصّصة في ملفات الشرق الاوسط في الحزب الديموقراطي الاميركي صورة قاتمة عن لبنان، يعتقد هؤلاء انّ الازمة الاقتصادية ستتفاقم أكثر وأنّ السيناريو المطروح حيال لبنان ينحدر بسرعة نحو الأسوأ. ويبدو هؤلاء على اقتناع بأن لا نية جدية لدى المسؤولين في إجراء اصلاحات حقيقية، ويَصفون الفاسدين بأنهم «أصحاب السلطة الحقيقية».
وفي موقف مُشابه لِما قال لودريان، فإنّ الإقتناع سائد بأنّ الحكومة اللبنانية غير راغبة في معالجة الأزمة، وهذا ما يدفع في اتجاه الانهيار بسرعة وهو ما سيؤثّر على المصالح الاميركية في المنطقة، كمثل احتمال انزلاق الوضع الى الفوضى الشاملة بسبب الجوع والتفلت الامني، اضافة الى إمكانية ان يؤدي ذلك الى دخول عامل اللاجئين السوريين على خط الاحداث كطرف فعلي، وبالتالي نقل لبنان الى مرحلة اضطرابات أسوة بجيرانه في سوريا والعراق.
وفي كواليس الحزب الديموقراطي انّ الحل يكمن في التعاون مع صندوق النقد الدولي، والذي شَهد الفريق اللبناني الذي يفاوضه استقالة عضوين أساسيين منه، لأسباب لها علاقة بالاحباط من المشاحنات والتراخي الداخلي للحكومة.
وفي هذا الاطار يبدو انّ الحكومة تستعد لضَم الوزير السابق رائد خوري الى الفريق المفاوض، وانّ ترتيبات تجري للتفاهم على الخطوط العريضة للبرنامج التفاوضي، خصوصاً انّ خوري يمثّل نقطة تقاطع ما بين رئاسة الجمهورية وجمعية مصارف لبنان، ويتمتع بخبرة في مجال المفاوضات مع الجهات الدولية.
ولا تستبعد كواليس الحزب الديموقراطي الاميركي احتمال فشل المفاوضات بين لبنان وصندوق النقد الدولي، وهو ما جعلها تشجّع على زيادة مستوى المساعدات الانسانية والغذائية للبنان بواسطة الامم المتحدة، التي عليها ان تؤدي دوراً في حماية المجتمع اللبناني الذي أضحى ضعيفاً. فلا يجب تجاهل الاحتمالات المرتفعة للانهيار الوشيك لوضع لبنان.
لكنّ هذه التقارير الموضوعة حول لبنان تُجمع على نقطة واحدة مضيئة وهي الجيش اللبناني، الذي أدّى سلوكاً متّزناً طوال الفترة الماضية رغم دقة الوضع وحساسيته وحراجته.
ويعتبر هؤلاء انه على واشنطن الاستمرار في تأمين المساعدات المطلوبة والملحّة للجيش اللبناني، كونه الركيزة الاساسية والوحيدة للأمن في البلاد.
أضف الى ذلك انّ قيادة الجيش أثبتت وعياً ومسؤولية والتزاماً وطنياً يفتقد اليه كثيرون من المسؤولين.
وربما هذه الاشادة المتكررة للمسؤولين الاميركيين على تنوّعهم واختلاف توجهاتهم، رفعت من حساسية البعض وعلى أساس حسابات شخصية وضيقة.
ويكشف هؤلاء انّ سياسيين لبنانيين عملوا على تحريض مسؤولين اميركيين على قيادة الجيش بتهمة التنسيق بين الجيش و»حزب الله». وفي المقابل عمد هؤلاء ايضاً على تحريض «حزب الله» ضد الجيش، خصوصاً مع انطلاق ثورة 17 تشرين وعلى أساس «تَعامل» قيادة الجيش مع الاميركيين، وكادوا أن يدفعوا في اتجاه إحداث صدام داخلي. والهدف واضح وله علاقة بالخشية من استحقاقات مقبلة.
ومنذ يومين تحدث النائب جبران باسيل عن تشجيع وغَضّ نظر عن تسليح تركي لمجموعات في شمال لبنان، متّهماً 3 مسؤولين أمنيين في الجيش اللبناني وقوى الامن الداخلي. لكن، وقبل كلام باسيل بساعات، كان نائب الامين العام لـ»حزب الله» الشيخ نعيم قاسم قد أجاب عن السؤال نفسه في مقابلة عبر شاشة «الميادين»، واضعاً ملف التمدد التركي في شمال لبنان في إطار ضيّق ولم يُعطه أهمية واضحة رغم انه من المفترض ان يكون «حزب الله» اكثر المتحسّسين من الموضوع. وكانت مقاربته مختلفة كلياً عن مقاربة باسيل.
ربما مشكلة قيادة الجيش تكمن في انها منعت «الزبائنية السياسية» داخل المؤسسة، والأهم أنها لم تكن محطة الاستهداف الاولى ولن تكون الاخيرة. فمنذ مدة كان موضوع دخول العميل الفاخوري الى لبنان، وقبله توقّف اعتمادات الطعام، وأيضاً عصر موازنة الجيش الهزيلة أصلاً، وغداً بالتأكيد مفاجآت أخرى.