في أذار 2019 وبعد ان دفنت سورية ومحور المقاومة أهداف أميركا فيها وأفشلت عملها ب “استراتيجية القوة العمياء الإرهابية" وضع مايكل بومبيو وزير خارجية ترامب، خطته البديلة للبنان ليعوض الفشل وليعود فينقض على سورية فيحرمها من استثمار انتصارها أولا ثم يجهض الانتصار ثانيا.
خطة بومبيو للبنان اعتمدت "استراتيجية القوة الخفية الذكية المركبة "، وترمي إلى الإجهاز على حزب الله وسلاحه ومقاومته عبر محطات متتالية تبدأ بخلل أمنى وحركة شعبية، يعقبها فوضى وفتنة يؤججها الحصار والإرهاب الاقتصادي الأميركي، في ظل فراغ سياسي يفرض، للوصول إلى اقتتال داخلي يستدعي إسرائيل لتنفيذ المهمة بالانقضاض على المقاومة لاجتثاها.
كانت خطة بومبيو (التي يبدو انه مصر عليها) ترتكز في جزء منها على عزل المقاومة عن بيئتها وضرب معنوياتها وتثبيط عزيمتها وإجبارها على الاستدارة في وجهتها وسلاحها إلى الداخل بدل ان تكون كما هي وكما تريد ان تستمر، قوة للدفاع عن لبنان وحقوقه وثرواته.
بيد انه وبشكل موضوعي نقول ان بومبيو الذي يوصف في أميركا بانه أسوأ وزير خارجية أميركية، هذا السيء بالوصف الأميركي نجح في بعض عناصر خطته في لبنان حيث وجد في الداخل اللبناني من يستجيب له ويعمل بأوامره، لكنه فشل حتى الأن في تحقيق الهدف الرئيسي للخطة التي ظهر بانها قاصرة عن محاصرة او النيل من المقاومة ماديا او معنويا او المس بكل ما يتصل بها حاضرا ومصيرا، وجاءت مسرحية مزارع شبعا الأخيرة التي لعبتها إسرائيل بخفة وهستيريا بالغة لتوكد هذا الفشل.
لقد نجحت أميركا في أسقاط حكومة سعد الحريري تحقيقا لهدف إحداث فراغ سياسي، لكنها فشلت في منع تشكيل حكومة بديلة رغم استنكاف كل حلفائها واتباعها في لبنان عن المشاركة فيها، ونجحت في محاصرة لبنان ماليا ونقديا والتلاعب بالعملة الوطنية عبر من يعمل لصالحها ويحمل القاب وظائف في الدولة اللبنانية ونجحت في خنق لبنان معيشيا لسببين فساد مستشري في الإدارة والسياسة اللبنانية وعمالة خسيسة وجشع يمارسه مسؤولون ومعنيون لبنانيون خدمة لأميركا التي تحميهم وترسم حولهم الخطوط الحمر.
لكن أميركا فشلت حتى الأن في أحداث شرخ بين المقاومة و بيئتها و استمر جمهور المقاومة رغم شديد المعاناة الاقتصادية التي يعانيها بنتيجة الحصار الأميركي متمسكا بمقاومته بكل فخر و ثقة ، و فشلت في أحداث الفتنة التي أعدت لها و التي تؤمل ان تراها تنفجر في 7 أب المقبل كموعد نهائي (ربطا بقرار محكمة الحريري و قد حددت أميركا التاريخ خدمة للخطة) بعد ان ضاق وقت بومبيو في الخارجية الأميركية كما و فشلت في أحداث انقسام و اشتباك حول ما طرح من حياد لبنان لان الجهة المعنية بالطرح و التي ما كان الطرح ألا ضدها ، لم تقع في الفخ و لم تنزل إلى ميدان الاشتباك السياسي لأنها لم تجد ما يلزمها بالتدخل و لمست انه طرح عقيم لن يصل إلى أي نتيجة في ظل شروط وضعتها المواقع السياسية الرسمية و النخب المسيحية ما جعل إمكان الاستجابة لطرح الحياد مستبعدا كليا .
فالمقاومة اليوم و بعد 16 شهرا من اطلاق خطة بومبيو ضدها في لبنان ، تعتبر في قوة لم تبلغها منذ أنشائها في العام 1982، و في تماسك و احتضان جماهيري مميز و في امتداد و عمق إقليمي غير مسبوق و بالتالي يستطيع بومبيو ان يقول بانه تسبب بتجويع الشعب اللبناني بشكل أجرامي خسيس لكنه لم يفلح في تركيعه او خنق المقاومة التي استمرت في خطها الصاعد و قوتها التراكمية التي يبدو ان إسرائيل تدركها و تخشاها وتلمس أنها تفعل فعلها في النفس الإسرائيلية و تنتج حالة التخبط و الذعر و الارتباك العام التي تجلت في مسرحية مزارع شبعا الفاشلة و المثيرة للتندر و للسخرية من القيادة الإسرائيلية بمستوييها العسكري و السياسي فضلا عن دوس هيبة من كان يوصف يوما بالجيش الذي لا يقهر فاذا به يرى بين صخور وشجيرات مزارع شبعا يختلق أشباحا يظنها رجال المقاومة فيخاف منها و يذعر و يطلق النار و يقصف مدفعيا و يستدعي الطيران و يرفع درجات الاستنفار و ينزل المستعمرين إلى الملاجئ ثم يدعي انه افشل عملية تسلل و انه قتل المتسللين الأربعة و انه وثق العملية بالصوت و الصورة و انه و انه الخ ...
ثم ينهار كل ما تصور وأعلن وينفضح أمام صمت المقاومة التي صنعت له بصمتها منذ استشهاد المقاومة محسن على ارض سورية بنار عدوان إسرائيلي، صنعت له بهذا الصمت مثل هذا الرعب وجعلته يختلق أشباح تخيفه وتذعره فكيف حدث كل ذلك؟
المقاومة التي شاء بومبيو ان يراها في نهاية تنفيذ خطته منتفية الوجود بعد تجريدها من السلاح وتقطيع أوصالها، هذه المقاومة اليوم بمجرد صمتها تحدث في إسرائيل ذاك الخوف والإرباك، فكيف بها إذا نطقت وكيف بها إذا أطلقت النار على العدو واستعملت صواريخها الدقيقة؟
كثيرة هي التفسيرات التي يمكن ان تعطى لمسرحية مزارع شبعا المضحكة، ولكننا ومنذ الساعات الأولى وبعد ان تأكدنا من ان المقاومة لم تقم باي فعل ميداني خلال فترة تنفيذ المسرحية ما خلا المراقبة الثابتة عن بعد، رأينا ان احدى فرضيات ثلاث قد تعطي تفسيرا لما حصل.
أولها القول بان دورية إسرائيلية وقعت في كمين إسرائيلي ظنها مقاومة فأطلق النار عليها ثم تخيل انه قتل المتسللين ثم جر القيادة الميدانية ثم الإقليمية ثم المركزية بمستوييها العسكري والسياسي إلى خطئه وأوهامه ويكون الخيال هذا نتيجة الرعب من المقاومة.
أما الفرضية الثانية فقد تكون رغبة نتانياهو في تقديم "خدمة للمقاومة " تتمثل بالقول بانها ردت وطوي الملف وثبتت قواعد الاشتباك في سلوك معطوف على الاعتذار الضمني عن الجريمة الذي أرسلته إسرائيل إلى المقاومة عبر الأمم المتحدة، ما يؤكد أيضا ان هيبة المقاومة وقوتها فرضت على عدوها هذا السلوك.
أما الثالثة، فقد تكون محاولة نتنياهو المحاصر في الداخل بالاعتراضات والاحتجاجات الشعبية محاولته نقل الاهتمام الشعبي من الداخل إلى الحدود ليقول بان هناك خطر يتهدد إسرائيل من قوة "إرهابية " خطرة وان الجيش جاهز للدفاع وعليكم الاهتمام بما يجري هناك، وأيضا تقوم هذه الفرضية على قناعة إسرائيلية بقوة المقاومة والخوف منها.
بيد انه أي كانت الفرضيات، مع ترجيحنا للأولى خاصة وان قرارا إسرائيليا صدر بعدها ولأول مرة تقريبا، ويتضمن منع الجنود الصهاينة من إطلاق النار على أي عنصر من حزب الله مسلحا او غير مسلح طالما انه على ارض لبنان، قرار جاء بعد إقرار إسرائيلي بان كل بيانات الجيش كانت خاطئة وان لا مقاومين تسللوا او قتلوا وان المسالة بدأت مع خوف مجندة من شبح تهيأ لها فأطلقت النار عليه ثم تسلسلت الأحداث الهزلية المثيرة للسخرية.
هذا على جانب العدو أما المقاومة التي حصدت من المسرحية نصرا نظيفا خالصا من غير ان تطلق طلقة نار واحدة او تخطو في الميدان خطوة واحدة ، هذه المقاومة صنعت نصرها النظيف بصمت استراتيجي قاتل و مدروس مارسته بعد استشهاد المقاوم ، و صمت استمرت عليه حتى بعد الإعلان عن بدء المسرحية ، ما جعل الجمهور الإسرائيلي و كل المراقبين ينتظرون بفارغ الصبر موقفها و بيانها حتى اذا صدر البيان تعامل الكل معه على أساس انه الحقيقة و ان كل ما ذكرته إسرائيل كذب و تلفيق و أوهام ، أما الموقف الثالث الذي افهم إسرائيل ان مسرحيتها فاقمت مازقها فقد تمثل بعبارة "الرد ات " التي تضمنها البيان وأضاف إلى الرد الأول ردا على تدمير العدوان منزل في الهبارية وباتت إسرائيل ملزمة بمتابعة الانتظار على "رجل ونصف" لتتلقى الردود الحتمية الأتية .
كل هذا يحدث و بومبيو يتابع ويرى ان خطته للبنان لم تحقق أهدافها وأنا الأيام المتبقية له في وزارة الخارجية لن تكون كافية لإنقاذ الخطة كما أنها لن تكون كافية لإخراج إسرائيل من حال الارتباك والذعر او حالة التردد ة الخوف من الذهاب إلى الحرب، فالحرب تبقى مستبعدة وتخبط إسرائيل وارتباكها يبقى مستمرا و بومبيو سيخرج من الخارجية الأميركية يحمل الخيبة مع أوراق خطته الإجرامية الفاشلة التي لم تحدث إلا بعض الم من معاناة في لبنان لكنها لم تمس المقاومة التي تزداد قوة يوما بعد يوم.