في شهر تشرين الثاني من العام 2019، انتهت مصر من الاتفاق المُبرم مع صندوق النقد الدولي في نهاية العام 2016 للاستفادة من «تسهيل الصندوق الممدّد» والذي بلغت قيمته حوالي 12 مليار دولار (أو 4 أضعاف حصة عضويتها)، لدعم البرنامج الوطني الذي وضعته السلطات المصرية لإصلاح الاقتصاد الوطني. في الواقع، وعقب ما يقارب ثلاث سنوات من الخسائر الاقتصادية الملموسة في مصر، لا سيّما بين عامي 2011 و2014، أيّ في أعقاب الثورة الأولى والثورة الثانية، سارت البلاد بإصلاحات هيكلية مهمّة وإنْ حملت في طيّاتها بعض التكاليف المرهقة والموجعة لا سيّما على مستوى الضغوط النقدية وما رافقها من ضغوط على سعر الصرف وعلى تضخم الأسعار وعلى مستوى المعيشة، بالتزامن مع مزيد من التخفيضات في الدعم الحكومي وزيادة في الضرائب. غير أنّ مكاسب هذا التحدّي القائم على مستوى البرنامج الإصلاحي كانت واضحة المعالم، لا سيّما في ظل تنامي النشاط الاقتصادي الحقيقي، وتحسّن احتياطيات البنك المركزي إلى أعلى مستوى لها، ونهوض في أعداد السياح الوافدين من مستويات متدنية، وأداء أقوى في الأسواق المالية، بالتوازي مع تحسّن في النشاط المصرفي بشكل عام، لتشكّل مصر بجهودها الجبّارة وبمثابرتها على الإصلاح نموذجاً اقتصادياً ناجحاً وواعداً يُحتذى به في أيامنا هذه.
من هنا، وفي خضمّ أعتى أزمة اقتصادية ومالية يشهدها لبنان اليوم، ومع انطلاق المفاوضات الرسمية مع صندوق النقد الدولي، تبادَر إلى أذهان البعض أسئلة جوهرية حول ما إذا كان بمقدور لبنان أن يحذو حذو مصر في معركة النهوض الاقتصادي المنشود، وهل تصحّ هذه المقارنة بين مقوّمات الاقتصاد اللبناني ومقوّمات الاقتصاد المصري؟
بدايةً، وقبل الإجابة على هذه الأسئلة البديهية، ينبغي أن نسلّط الضوء على الأوضاع الاقتصادية التي كانت سائدة في مصر قبيل الاتفاق مع صندوق النقد الدولي وأين أصبحت اليوم. في الواقع، لقد حقّقت مصر في العام المالي 2019 أعلى نسبة نمو اقتصادي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وصلت إلى 5.6% بعدما بلغت متوسطاً قدره 2.5% بين عامي 2011 و2014، الاحتياطيات الأجنبية ارتفعت من 15 مليار دولار منذ ثلاث سنوات لتصل إلى 45 مليار دولار في نهاية العام 2019، نسبة التضخم انخفضت من 33% في نهاية العام 2017 إلى 5% اليوم، العجز المالي العام تراجع من نسبة 13% من الناتج المحلي الإجمالي إلى 7% من الناتج اليوم، في حين أنّ سعر الصرف تراجع من حوالي 20 جنيه مصري للدولار الأميركي الواحد في نهاية العام 2016 إلى حوالي 15 جنيه مصري للدولار الأميركي الواحد في الوقت الراهن. من هنا، فقد يرى البعض أنّ هذا المسار المشجّع الذي سلكته مصر غير قابل للتحقّق في لبنان نظراً للتفاوت الكبير بين مقوّمات الاقتصاد المصري من جهة ومقوّمات الاقتصاد اللبناني من جهة أخرى، وأنّ المقارنة لا تصحّ من حيث الأحجام الفعلية لكلا الاقتصادين. هذا صحيح، إذ أنّ حجم الاقتصاد المصري (المقدّر اليوم بحوالي 300 مليار دولار) يتجاوز 6 أضعاف حجم الاقتصاد اللبناني، وأنّ عدد السكان في مصر قد لامس المائة مليون نسمة في مقابل 6 ملايين مقيم في لبنان. في حين أنّ حجم الإيرادات بالعملات الصعبة التي تحقّقها مصر من الصادرات والاستثمارات الأجنبية المباشرة وتحويلات المغتربين في الخارج والخدمات من السياحة وإيرادات قناة السويس، تتجاوز بأشواط ما يمكن أن يحقّقه لبنان على صعيد حركة التصدير والاستثمار والسياحة وتحويلات المغتربين ومن إيرادات الخدمات السياحية والتعليمية والاستشفائية. ولكن إذا تمّت مقاربة الموضوع بالقيم النسبية لا الفعلية، أيّ مقارنة مقوّمات كلّ بلد بالنسبة إلى حجم اقتصاده وسكّانه وحاجاته التمويلية على سبيل المثال، فإنّ الصورة قد تبدو مختلفة تماماً لا بل مشجّعة بالنسبة للبنان.
في التفاصيل، لقد بلغ حجم صادرات مصر حوالي 28 مليار دولار في العام المالي 2019 (من ضمنها 12 مليار دولار مشتقات نفطية و13 مليار دولار مواد زراعية وصناعية)، أيّ ما يشكل نسبة 9% من حجم الاقتصاد المصري، في حين أنّ صادرات لبنان قد ناهزت 4 مليار دولار في العام 2019، وهي تشكل أيضاً نسبة 9% من حجم الاقتصاد اللبناني، مع العلم أنّ صادرات لبنان كانت قد بلغت 4.3 مليار دولار في العام 2010 أيّ قبيل الاضطرابات الإقليمية، لتشكل آنذاك ما نسبته 11% من الناتج المحلي الإجمالي اللبناني. من هنا، فإنّ لبنان قادر اليوم على تعزيز حجم صادراته من خلال اتخاذ تدابير جدّية لتعزيز الإنتاج المحلي على حساب الواردات من خلال تحفيز السلع الموجهة نحو التصدير والسلع البديلة للاستيراد للحدّ من العجز التجاري القائم. في هذا السياق، من المهمّ تحسين وتوسيع نطاق البرامج القائمة لدعم الصادرات واستحداث برامج تحفيزية جديدة تتوجه نحو القطاعات التي تتمتع بنسب متدنية من الاستثمار إلى القيمة المضافة الناجمة عنه. كما أنّ تشجيع الإنتاج المحلي يجب أن ينطوي على رفعٍ للرسوم الجمركية لحماية المنتجات المحلية، تـأمين حوافز ضريبية للمنتجين المحليين، دعم أكبر قدر ممكن من عملية استيراد المواد الأولية، ناهيك عن ترويج الإنتاج المحلي في الخارج مع التركيز على المنتجات ذات القيمة المضافة العالية.
هذا وقد بلغ حجم تحويلات المغتربين المصريين حوالي 25 مليار دولار في العام المالي 2019، يُضاف إليها إيرادات سياحية بقيمة 13 مليار دولار وإيرادات من قناة السويس بقيمة 6 مليار دولار. وبالتالي، فإنّ هذه الإيرادات مجتمعةً لا تتخطى نسبتها 14% من الناتج المحلي الإجمالي المصري. في حين أنّ تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج والتي تصل عادةً إلى 8 مليار دولار (أيّ 16% من الناتج المحلي اللبناني والأعلى في المنطقة)، إضافةً إلى الإيرادات السياحة التي بلغت في العام 2010 حوالي 7 مليار دولار، كفيلة بضخّ ما يقارب من 15 مليار دولار سنوياً، أيّ ما يشكّل نسبة 30% من الناتج المحلي الإجمالي اللبناني، وهو ما يكفي لتمويل حاجات لبنان من العملات الصعبة والتي تقدّر بحوالي 10 مليار دولار سنوياً. أضف إلى ذلك، فإنّ لبنان يتمتّع بقدرته على تأمين خدمات عقارية وتعليمية واستشفائية تساهم بما يقارب من نسبة 35% من الناتج المحلي الإجمالي. في هذا الإطار، المطلوب هنا تعزيز عامل الثقة، أيّ ثقة اللبنانيين المقيمين والمغتربين والأجانب، والحفاظ على الاستقرار السياسي والأمني من خلال الحدّ من المشاحنات السياسية والكفّ عن السجالات الحادّة في الخطاب السياسي بُغية تحصين الساحة الداخلية قدر المستطاع.
في موازاة ذلك، حقّقت مصر تحسّناً ملموساً في أوضاع المالية العامة خلال الأعوام المنصرمة. إذ انخفض العجز المالي العام من 13% من الناتج إلى حوالي 7% من الناتج في السنة المالية 2019، مما قلّص من نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 85% (وذلك من 103% في العام 2017). وكانت قد أطلقت السلطات المصرية في حينه إصلاحات جريئة واتبعت سياسات نقدية منضبطة، مع توسّع في السياسات الاجتماعية، بالإضافة إلى إصلاحات تنظيمية وإدارية واسعة النطاق لتحسين بيئة الأعمال وتعزيز الاستثمار. هذا واتخذت الحكومة المصرية عدة تدابير لتعزيز الإيرادات الضريبية وغير الضريبية وخفّضت دعم الوقود.
أمّا في لبنان، فالمطلوب هنا تصحيح ضروري على صعيد المالية العامة يتأتّى عن عدد من التدابير التي تتمحور بشكل خاص حول تقشّف في الإنفاق العام، تعزيز الإيرادات عبر مكافحة التهرّب الضريبي، إصلاح قطاع الكهرباء، وتحقيق بعض الوفورات في خدمة الدين العام. كما أنّ هنالك مجالاً أيضاً لخصخصة بعض المؤسسات العامة مثل قطاع الاتصالات وطيران الشرق الأوسط وكازينو لبنان، ما من شأنه أن يؤدّي إلى اقتطاع جزئي في مخزون الدين العام. وفي حال تمّ تنفيذ جميع هذه التدابير، من الممكن خفض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي من 180% اليوم إلى ما يقارب 100% خلال خمس سنوات، وتحقيق صفر عجز في المالية العامة في حينه.
من هنا، فإنّ كلّ هذه المؤشرات تدلّ على أنّ لبنان يملك كلّ المقوّمات الاقتصادية اللازمة، إذا ما تعبّدت الطريق أمامه، للانتصار في معركة النهوض الاقتصادي المنشود، وأنّ لبنان قادر على أن يحذو حذو مصر إذا ما انخرط في برنامج إنقاذ شامل مع صندوق النقد الدولي من أجل إعطاء مصداقية للمساعي الإصلاحية المطروحة وتعزيز القدرة على استقطاب المساعدات المرجوّة من الخارج. ولكن ما يجعل من المسار المصري تجربة إصلاحية فريدة وباهرة، هو أنّ مصر لم تتلكأ لحظة في إطلاق عجلة الإصلاحات الهيكلية، على عكس لبنان. مصر لم تغرق في وحول الطائفية والمذهبية والمحاصصات، على عكس لبنان. مصر أمّنت استقراراً سياسياً وأمنياً مؤاتياً خلال العامين المنصرمين، على عكس لبنان. مصر حقّقت تقدّماً ملموساً على صعيد مكافحة الفساد ليتحسّن ترتيبها خلال الأعوام السابقة وفق مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية العالمية، على عكس لبنان. مصر شكّلت بفريق عملها الرئاسي والحكومي والتشريعي جسماً واحداً متجانساً، على عكس لبنان. مصر آمنت بقدرة حكّامها ومسؤوليها على الخروج من الأزمة، على عكس لبنان. مصر لم تهدر 45 مليار دولار لتمويل عملية قطع الكهرباء ولم تنفق مليارات الدولارات دون حسيب أو رقيب، على عكس لبنان. باختصار، مصر لم تقُم بأكبر عملية إبادة جماعية بحقّ شعبها، على عكس لبنان.
في الختام، كلّ الآمال تبقى معقودة اليوم على أن ينطبق السيناريو المصري الناجح على الاقتصاد اللبناني، وأن يخرج لبنان من محنته سليماً معافىً، لا أن ينطبق عليه السيناريو الفنزويلي أو اليوناني كما يجري تداوله في الآونة الأخيرة. فلبنان يملك كلّ مقوّمات الصمود والنهوض إذا ما فُكّكت تلك الأيادي الخانقة لأنفاس شعبه والناهبة لمقدّرات اقتصاده. لبنان الغنيّ بشعبه الحيّ وبمثقفيه ومبدعيه قادر على صنع قيامته وتحويل التحدّي إلى فرصة إذا ما توافرت الإرادة الجماعية. هذا الشعب الحيّ، وإن سرقوا منه كل ما يملك، لن يقووا على سرقة حلمه أو حتى حقّه في الحياة لا في العيش فقط، إذ «أنّ الحياة لا تكون إلا في العزّ، أما العيش فلا يفرّق بين العزّ والذلّ».