أسئلة كثيرة تُراود أذهان القسم الأكبر من اللبنانيّين عمّا حصل يوم الثلاثاء 4 آب 2020 المَشؤوم، من دون توفّر إجابات شافية حتى هذه اللحظة. وفي إنتظار أن تنتهي مُهلة الخمسة أيّام التي وضعتها السُلطة السياسيّة لإنهاء تحقيقاتها بإنفجار بيروت الكارثي، وعلى أمل أن تصدق هذه السُلطة هذه المرّة، وأن تعرض على الرأي العام نتائج تحقيقاتها بكل شفافيّة مطلع الأسبوع المُقبل، وأن تُنزل العقاب بكل مُدان، لا بُدّ من إستعراض جملة من الوقائع والتساؤلات والفرضيّات التي تُحيط بهذه الفاجعة.
أوّلاً: في 23 أيلول 2013 أبحرت السفينة Rhosus التي ترفع العلم المولدوفي من ميناء باتومي في جورجيا مُتجهة إلى موزامبيق، وهي تحمل 2750 طُنًا من نيترات الأمونيوم، وبعد أن توقفت لفترة قصيرة في إسطنبول، أبحرت مُجدّدًا،وعرّجت على مرفأ بيروت الذي رست فيه إعتبارًا من 20 تشرين الأوّل من العام عينه، بهدف تحميل شحنة من الحديد إلى جانب الشُحنة الأساسية-كما قال قبطانها بوريس بروكوشيف. وبعد تفتيش السفينة في بيروت، جرى منعها من متابعة رحلتها، وإعتقال قبطانهاوتوقيف عدد قليل من طاقمها، بحجّة عدم سداد رسوم مُستحقّة ونقل مواد مُتفجّرة. وبعد مُدّة تمّ التخلّي عن السفينة المَذكورة من قبل مالكيها، وفقدت الجهات الشاحنة إهتمامها بالشحنة المَنقولة، وكثرت الدعاوى القضائية بين مالكي السفينة وأصحاب الشحنة وشركات التأمين وآخرين، الأمر الذي زاد الأمور تعقيدًا أمام إعادة ترحيلهاوحُمولتها، وأخلي سبيل القُبطان ومُعاونيه بعد نحو 11 شهرًا من التوقيف.
ثانيًا: تضاربت الأنباء بشأن السبب الذي دعا السُلطات اللبنانيّة إلى تفريغ شحنة السفينة في المرفأ، حيث هناك من يقول إنّ الهدف كان إستفادة بعض الجهات النافذة آنذاك من بيعها لو نجحت أيّ صفقة تجاريّة في هذا الصدد، وهناك من يقول إنّ الشُحنة أنزلت بأمر قضائي لأنّ السفينة كانت تُعاني من مشاكل خطيرة في هيكلها القديم وهي كانت قد بدأت تغرق بشكل مُتدرّج، فجرى إنزال الشُحنةخشية غرقها مع السفينة، تمهيدًا لإعادة شحنها لاحقًا، وهناك أيضًا من يقول إنّ القوانين الدَوليّة تمنع السماح لأيّ باخرة بإعادة السفر من أيّ ميناء في حال إكتُشِف أنّها مُحمّلة بأسلحة أو ذخائر أو مواد مُتفجّرة، إلخ. كما قيل إنّ الجيش اللبناني رفض نقل الشُحنة إلى مخازنه لخُطورتها، وإقترح إعادة تصديرها، لكنّ عوائق قانونيّة ولوجستيّة حالت دون ذلك. وتردّد أيضًا أنّ الشُحنة المنقولة عُرضت للبيع لصالح الشركة اللبنانيّة للمُتفجرات لكنّ الشركة المَذكورة لم تُبد أيّ إهتمام بشرائها. وقيل أيضًا أنّ بعض الجهات إقترحت توزيعها بكميات صغيرة مجانًا على المُزارعين لإستخدامها كسماد، لكنّ جرى رفض هذا الإقتراح أيضًا بحجّة منع إستخدام هذه المواد لأسباب بيئيّة، إلخ. وبين هذا القول وذاك، ضاعت الحقيقة-أقلّه حتى تاريخه!.
ثالثًا: إنّ العديد من البرقيّات بشأن حُمولة نيترات الأمونيوم، أرسلت إلى المرجعيات الأمنيّة والسياسيّة والقضائيّة في لبنان، وذلك من قبل أكثر من جهاز، مثل الجمارك وأمن الدَولة وشعبة مُكافحة المُخدّرات، وذلك في تواريخ مُتباينة تمتدّ من مطلع العام 2014 حتى مُنتصف العام 2020، كما هو ثابت في العديد من الوثائق التي جرى تسريبها إلى الإعلام، ما يعني عمليًا أنّ مُختلف الجهات التي كانت في الحُكم كانت نظريًا على إطلاع على وُجود الشُحنة. لكن كل جهة تُلقي اللوم على جهة أخرى، بشأن التقاعس عن إتخاذ أيّ تدبير عملاني كان من شأنه تجنيب لبنان واللبنانيّين الكارثة، وذلك منذ نحو ست سنوات حتى الأمس القريب!.
رابعًا: أفرغ عناصر الجمارك حمولة السفينة المًصادرة تنفيذًا لقرار قضائي صدر عن قاضي الأمور المُستعجلة في حينه جاد معلوف في حزيران من العام 2014، بعد ورود أكثر من توصية بشأن خُطورة بقاء الحُمولة على متن السفينة التي كانت تغرق تدريجًا بسبب تسرب المياه إلى هيكلها وبنيتها، إلى أن غرقت فعلاً وبشكل كلّي في العام 2016.
خامسًا: من الضروري التذكير أنّ قصّة لبنان مع الشُحنة المَشؤومة بدأت يوم كان النائب الحالي نجيب ميقاتي رئيسًا للحكومة، وغازي العريضي وزيرًا لللأشغال، وشفيق مرعي مُديرًا عامًا للجمارك، وحسن قريطم رئيسًا لإستثمار المرفأ. لكن حُكومة ميقاتي كانت قد إستقالت في 22 آذار 2013، وهي كانت مع وزرائها بوضعيّة تصريف الأعمالعند وُصول السفينة المَشؤومة إلى لبنان، أي بصلاحيّات تنفيذيّة محدودة. وقد توالى بعد ذلك أكثر من رئيس جمهوريّة ورئيس حكومة ووزير أشغال ومدير جمارك ورئيس إستثمار لمرفأ بيروت منذ ست سنوات حتى تاريخه، والتحقيق كفيل بتحديد مسؤولية كل من كان من هؤلاء في موقع يسمح له بإتخاذ قرارات كانت لتُجنّب لبنان هذه الكارثة.
توقيفات وفرضيّات...
سادسًا: تمّ توقيف ثلاثة عُمّال قيل إنّهم قاموا بعمليّة لحام فجوة في العنبر رقم 12، لكن يُوجد تضارب كبير في شأن توقيت هذا العمل، حيث هناك من يقول إنّه السبب المُباشر وراء إندلاع الحريق وحُصول ما حصل، ومن يقول إنّ عمليّة الصهر واللحام إنتهت ظُهرًا قبل ساعات طويلة من الإنفجار، والدليل أنّ العمّال الذين قاموا بها بخير، ولم يتعرّضوا لأي سوء وهم موقوفون حاليًا.
سابعًا: جرى إستبعاد العامل الإسرائيلي بشكل فوري في هذا الحادث، علمًا أنّه في مُختلف أحداث التفجير السابقة كانت الإتهامات تطال إسرائيل وإستخباراتها وعملاءها بشكل تلقائي؟! وكان لافتًا أيضًا رمي معلومة إنفجار المُفرقعات فور حُصول الإنفجار، الأمر الذي روّجت له العديد من وسائل الإعلام، قبل أن يتبيّن للجميع أنّ ما حصل أكبر وأخطر بكثير، ليتم عندها الحديث عن مواد كيميائيّة بعد عدم تصديق معلومة المُفرقعات. وهنا أيضًا المعلومات مُتضاربة، حيث أنّ مصادر عدّة تحدّثت عن وُجود مُفقرعات مُخزّنة في العنبر رقم 12 فعلاً إلى جانب نيترات الأمونيوم، بينما رئيس إستثمار المرفأ السابق حسن قريطم نفى وُجود أي مُفرقعات بجانب نيترات الأمونيوم. فهل كان الحديث عن مُفرقعات لتغطية ما أظهرته الأفلام المُصوّرة من إنفجارات صغيرة كثيفة قبل الإنفجار الكبير، والتي رأى فيها البعض ذخائر تعود لأسلحة حربيّة، وكذلك لتبرير إشتعال مادة نيترات الأمونيوم الذي يقول الخُبراء إنّها لا تشتعل بسُهولة وتحتاج لصاعق أو لمزجها بسائل مُتفجّر آخر لتنفجر، أم أنّ هذا فعلاً ما حدث؟.
ثامنًاً: إنّ إنقسام الرأي بشأن تحليق طيران إسرائيلي فوق بيروت عند حُصول الإنفجار من عدمه، لا يُقدّم ولا يُؤخّر، لأنّ الطيران الإسرائيلي ينتهك حرمة الأجواء اللبنانيّة بشكل شبه يومي، ويُمكن أن يكون وُجوده في الأجواء لحظة الكارثة-وهو كان موجودًا بحسب تقاطع آراء الكثير من اللبنانيّين الذين سمعوا هدير الطيران، مُجرّد صُدفة. أكثر من ذلك، إنّ إسرائيل في حال كانت المسؤولة عمّا حصل، قادرة أن تُطلق صاروخ جوّ أرض من مسافات بعيدة جدًا، ولا حاجة بالتالي للتحليق فوق الموقع المُستهدف، وهي قادرة أيضًا أن تُطلق صاروخًا من سفينة في البحر مثلاً، وحتى هي قادرة أن تحرّك عميلًا أو عُملاء لها على أرض المرفأ للقيام بالتخريب، إلخ. خاصة وأنّ العُمّال في المرفأ من مختلف الجنسيات، والخرق الميداني سهل الحُصول. وبالتالي، كان غريبًا تبرئة إسرائيل فورًا مما حدث، بهدف إسقاط نظريّة خُصوم "حزب الله" الذين يتّهمونه بالإحتفاظ بمواد حربيّة بشكل مُموّه في المرفأ، الأمر الذي دفع إسرائيل إلى قصفها، علمًا أنّه يُمكن لإسرائيل أن تفتعل مثلاً حريقًا متعمّداً في عنبر نيترات الأمونيوم لإيذاء لبنان، وليس بالضرورة أن تكون قصفت أي مخزن للحزب، ما يستوجب ترك التحقيق مفتوحًا على كل الإحتمالات.
في الخُلاصة، الأنظار مَشدودة إلى نتائج التحقيق القائم حالياً، عسى أن تأتي خواتيمه على قدر آمال اللبنانيّين، وأن ينال كل مُقصّر وكلّ متوّرط وكل مُجرم عقابه المُناسب، وإلا السلام على دولة القانون والحق والعدالة وعلى وُعود مُعاقبة الفاسدين.