لم يكن لبنان يحتاج لزلزال تفجير مرفأ بيروت كي تتفكّك منظومته السياسية. كان البلد يتدرّج من الأزمة السياسية، إلى المالية، فالأزمة الإقتصادية-المعيشية، ثم الصحّية-الكورونية، تجمّعت كلّها دفعة واحدة، فنالت من المواطن اللبناني الذي تاه في دوراتها المستمرة، من دون تأمين أية حلول. تزايد السخط الشعبي على تلك المنظومة التي عجزت عن تلبية طموحات الناس. لم يعد اللبنانيون يريدون الاّ الحد الأدنى من متطلبات الحياة، بعد تراكم العجز: تراجُعُ قيمة العملة الوطنية نسفَ الدخل الفردي للمواطن. توسّعُ مساحات الفقر والعوز. إزديادُ البطالة بسبب إفلاس مؤسسات وإقفال أخرى.
توقّفُ المال السياسي الذي إعتاد عليه اللبنانيون منذ تأسيس دولتهم. لا وجود لإقتصاد منتج. لا رؤى حكومية تنفيذية وافية لا بالأمس ولا اليوم. لذا، وصل اللبنانيون إلى قناعة تفيد أن الدولة اللبنانية فشلت. لم يتعمقوا بالبحث عن أسباب السقوط المتدرّج للكيان، بل ألقوا المسؤولية كاملة على عاتق المنظومة السياسية. من هنا جاءت الإندفاعة في ١٧ تشرين الأول الماضي، وصولاً إلى الأصوات الشعبية الإعتراضية التي سمعها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في بيروت، ودفعته إلى طلب تغيير النظام السياسي، قبل أن يفرمل اندفاعته بإتجاه هذا العنوان بعد لقاء بعبدا.
كان رئيس فرنسا محقّاً عندما طرح عنواناً جوهرياً لا يمكن الإصلاح اللبناني من دون مقاربته، لكن لم يُعرف إذا كان ماكرون صرّح بوجوب تأسيس نظام سياسي جديد بناء على دراسة كافية، أم كان كلامه المُشار إليه يندرج في إطار رد الفعل على ما سمعه الرئيس الفرنسي من شكاوى المواطنين اللبنانيين. بالطبع، إستطاع ماكرون ان يحصد نجاحاً في بيروت، لا يجده الآن في باريس. فلو نزل الرئيس الفرنسي الى شوارع عاصمته، ماذا كان سيلقى: التفافاً شعبياً أم سخط الفرنسيين؟.
بالتأكيد سيحسب، على الأقل، حساباً لأصحاب السترات الصفراء الذين قد يجعلون ماكرون يفكّر مرات عدة قبل التجول في شوارع فرنسا التي كانت تضجّ بتظاهرات احتجاجية منذ أشهر، وهي التي خفّضت نسب المؤيدين له في إستطلاعات الرأي التي تجري على مساحة الدولة الفرنسية. بجميع الأحوال، حمل ماكرون معه إلى اجتماعاته مع القوى السياسية اللبنانية صدى ما سمعه في شوارع بيروتية، ليؤكد أن الفرصة تضيق: لا بد من حكومة وحدة وطنية تشكّل مدخلاً للإصلاح الجدّي. كان مضمون كلام ماكرون بمثابة تحذير أوروبي للبنانيين: في حال لم يتم الإلتزام بتغيير الأداء السياسي ستعيد فرنسا النظر في علاقاتها مع لبنان. لا يمكن لأي لبناني الاّ القول لماكرون: شكراً لأنك أتيت تتضامن معنا في عز أزماتنا، ولتقدم الدعم والنصيحة والرأي السديد. لكن ما هو مدى حدود الدعم الفرنسي؟ هل يستطيع ماكرون أن يمون على اللبنانيين الموزّعين بين توجهات عواصم القرار في العالم؟ قد تكون الفاعلية الفرنسية الحقيقية المطلوبة هي في الضغط على تلك العواصم لفرض تغييرات في لبنان: هل يقدر ماكرون تغيير برامج الأميركيين والخليجيين والأتراك والإيرانيين والروس والصينيين والإسرائيليين وغيرهم؟.
صحيح أنّ ماكرون قام بتشخيص المرض اللبناني الكامن في علّة تركيبة النظام، لكنه لم يطرح ذاك العنوان في اجتماعاته مع رؤساء الكتل النيابية اللبنانية، بل هو اصر على وجوب تغيير السلوك: حكومة وحدة وطنية وإصلاح في القطاعات بدءاً من الكهرباء. علماً ان مداخلات الحاضرين اللبنانيين هي التي تضمنت تغييرات مطلوبة في النظام السياسي: لامركزية، قانون انتخابات، دولة مدنية، مجلس شيوخ. لم يشأ الرئيس الفرنسي الغوص في تفاصيل العناوين الجوهرية التي تتطلب ورشة عمل لبنانية جوهرية برعاية إقليمية ودولية، ولأنه سمع خلال اجتماعه مع رؤساء الجمهورية ومجلس النواب والحكومة لزوم الإنتباه الى الطرح.
هنا أطلع رئيس المجلس النيابي نبيه بري ماكرون على اهمية قيام دولة مدنية لتحقيق الإصلاح النهائي، لا دولة طوائف تمضي في مسار الازمات المتراكمة. وعليه، قد يكون ماكرون أرجأ الحديث عن تغيير النظام لحين ترتيب الأجواء الخارجية والداخلية الداعمة لنظام مدني مطلوب لا نظاما طائفيا منبوذا. أراد الرئيس الفرنسي عملاً تنفيذياً فورياً لا يتعدّى موعد عودته الى لبنان في أيلول المقبل. يعرف ان هذا التفصيل مقدور عليه لبنانياً سريعاً لإنقاذ لبنان، مع تأمين غطاء خارجي بسيط، لكن طرح تغيير النظام يحتاج الى موافقة أعمق وأكبر من قبل المؤثرين بلبنان ايضاً. ليست فرنسا، رغم فاعليتها الأوروبية والدولية، تستطيع أن ترعى وحدها تأسيس عقد إجتماعي جديد في لبنان، ولا يمكن إنجاز هذا الملف بالسرعة المطلوبة الآن.
لذا، ستكون الإستقالة الحكومية هي المدخل الى الحل الآني، ثم تشكيل حكومة وحدة وطنية ببدائل موجودة برعاية خارجية عبّر عنها ماكرون بلقائه الجامع في بيروت، وهو طلب من القوى التجاوب، فكان ردُّ رئيس كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب محمد رعد أنّ "حزب الله" سبق وأن "عمل من اجل حكومة وحدة وطنية، بينما المشكلة تكمن عند الآخرين". بالفعل كان رئيس حزب "القوات" سمير جعجع يرفض طرح حكومة الوحدة. قد يكون رد فعله ناتج عن صدمة ما لديه جرّاء عدم مقاربة حكومة "مستقلة" كانوا يتوقعون طرح عنوانها من قبل ماكرون، أو لجنة تحقيق دولية لم يأت على ذكرها الرئيس الفرنسي بل قال بوجوب الاستعانة بخبرات تقنية دولية لا غير.