جزء كبير من الشعب اللبناني طالب أمس الأوّل السبت-ويُطالب دَوريًا، بإستقالة كلّ المَسؤولين اللبنانيّين الرسميّين، من أعلى الهرم نُزولاً، وبتنظيم إنتخابات نيابيّة مُبكرة، بعد أن بلغ غضبه ويأسه وقرفه وإشمئزازه أعلى المُستويات، وبطبيعة الحال بعد أن فقد الأمل كليًا بكل المَنظومة السياسيّة القائمة منذ عُقود. وعلى الرغم من أنّ مطلب الإستقالة الجَماعية والشاملة هو مطلب حقّ ومُبرّر، فإنّ تنفيذه بشكل جزئي ومَحدود(1)، يُشكّل خدمة مجّانية كبيرة للسُلطة. وهذه هي الأسباب:
أوّلاً: عندما طالب الشعب اللبناني بإستقالة حكومة سعد الحريري السابقة، بكل ما فيها من أحزاب وتيّارات وقوى سياسيّة، بهدف الإتيان بحُكومة تكنوقراط مُستقلّة، وبإجراء إنتخابات نيابيّة مُبكرة، حصل على الإستقالة التي أخرجت مجموعة من الأحزاب من السُلطة، لكنّ بقيت قوى سياسيّة أخرى في الحُكم بشكل غير مُباشر، وتقاسمت المناصب الوزاريّة في ما بينها من خلال وُجوه غير حزبيّة. وبالتالي، نجحت السُلطة القائمة بالإلتفاف على مطالب المُتظاهرين، عبر الإيحاء شكلاً بالإستجابة لمطالبهم، والتمسّك ضمنًا بنُفوذها وبمناصبها، من خلال حُكومة تضمّ وُجوهًا غير حزبيّة بشكل مباشر، لكن مَدعومة من مجموعة من الأحزاب والقوى السياسيّة الذين لكلّ منها نُفوذ على قرار عدد من الوزراء فيها، ومن خلال تجاهل مطلب الإنتخابات أيضًا.
ثانيًا: في حال إستقالة مجموعة من النوّاب من السُلطة التشريعيّة، فإنّ مجلس النوّاب يبقى قائمًا، ولا تحصل أيّ إنتخابات باكرة كما يُطالب المُتظاهرون. وبالتالي، في أفضل الأحوال يجري تنظيم إنتخابات فرعيّة في عدد من المناطق، بشكل لا يُقدّم ولا يؤخّر في توازنات السُلطة القائمة حاليًا. وبالتالي، ما لم يستقل مجلس النوّاب بكامله، أو على الأقلّ بأكثر من نصفه(2)، لا تحصل إنتخابات نيابيّة جديدة، ويبقى القديم على قدمه، مع إستبدال النوّاب المُستقيلين بآخرين جُدد يصلون عبر إنتخابات فرعيّة وفق قانون 1960(الفرعية تجري حسب قانون 1960). كما أنّ حُصول أيّ إستقالة من الحكومة لا تؤدّي إلى سُقوط الحكومة ككلّ، وهذا ما حصل فعلاً حتى الساعة، إلا في حال أسفرت الإتصالات القائمة خلف الكواليس على توافق بتغيير حُكومي مُتفق على خُطوطه العريضة مُسبقًا، وهو ما قد يستغرق وقتًا طويلاً.
ثالثًا: حتى لوّ إستقال عشرات النوّاب، فإنّ السُلطة القائمة، لا سيّما منها السُلطة التنفيذيّة، تبقى حاصلة على شرعيّتها، وتصبح السُلطة التشريعيّة بيد فريق سياسي عريض واحد، وهذا السبب هو أحد أهم الأسباب التي دفعت قوى سياسيّة على رفض التسرّع بإعلان الإستقالة لغايات شعبويّة، من دون أن تُغيّر في الوضع القائم، أو أقلّه من دون أن تُمهّد لتغيير كبير على مُستوى السُلطة في لبنان. أكثر من ذلك، لن يكون من المُمكن تغيير القانون الإنتخابي الحالي كما يُطالب المُتظاهرون، إلا بإقرار المجلس التشريعي الحالي قانونًا جديدًا، وبالتالي إنّ إسقاط المجلس النيابي، من دون إستباق هذه الخُطوة بإقرار أيّ قانون إنتخابي بديل، يعني حُكمًا التوجّه إلى إنتخابات باكرة وفق القانون الذي إعتمد في الدورة الإنتخابية الماضية.
رابعًا: رئيس الحكومة الدُكتور حسّان دياب قال إنّه سيطرح الإثنين خلال جلسة مجلس الوزراء مشروع قانون لإجراء إنتخابات نيابيّة باكرة على المجلس، لكن هذه المسألة المُهمّة تحتاج إلى تدقيق كبير ومتأنّ من قبل القوى السياسيّة المُمثّلة بشكل غير مُباشر في الحُكومة، ما يعني أنّه من المُستبعد أن يمرّ هذا الإقتراح بشكل مُتسرّع على مُستوى السُلطة التنفيذيّة، وإنّ مرّ لإمتصاص الغضب الشعبي، فإنّه من غير المُرجّح أن يمرّ على مُستوى السُلطة التشريعيّة. وبحسب المَعلومات المُتوفّرة، إنّ تفجير هذا الإقتراح سيكون من بوّابة الإختلاف بين القوى السياسيّة على قانون الإنتخاب، حيث سترفع العديد من القوى الصوت ضُدّ القانون الحالي، مُستفيدة من رفض المُحتجّين في الشارع له، وستعود الخلافات إلى نقطة الصفر التي كانت سبقت إقرار تسوية القانون الحالي.
ويُمكن القول إنّه في حين يجري حاليًا التنسيق بين كلّ من "القوات" و"المُستقبل" و"الإشتراكي" لدرس منافع وأضرار أيّ إستقالة جَماعيّة للكتل الثلاث، ومدى تأثيرها على بقاء الحُكومة، يعمل رئيس هذه الأخيرة في المُقابل على تعويم الحُكومة عبر السعي لضمّ وزراء جُددًا بدلاً من المُستقيلين، علمًا أنّ جلسة مجلس الوزراء المُقرّرة في بعبدا حاسمة لجهة تحديد مصير الحُكومة، أيّ إمّا إستبدال الوزراء الذين إستقالوا أو الذهاب إلى خيار إستقالة الحُكومة في حال التوافق على الخُطوط العريضة لحكومة بديلة، وذلك أقله في إنتظار رأي المجلس النيابي الذي بإمكانه أيضًا طرح الثقة بالحُكومة، وهو خيار مدار بحث جدي في أروقة السُلطة التشريعيّة حاليًا.
في الختام، الأكيد أنّ الوقت قد حان ليتحرّر كلّ لبناني من قوقعته الطائفيّة والمذهبيّة، ومن قوقعته السياسيّة والحزبيّة، والأكيد أنّ الوقت قد حان لسحب الدعم من تحت أرجل كل مسؤول ليس على قدر المسؤولية، مهما علا شأنه. لكن في الوقت عينه، عندما يتصرّف الإنسان بغضب أو بعصبيّة، غالبًا ما تكون خُطواته مُتهوّرة وغير مَدروسة، وعندما يُقدّم الإنسان عواطفه ومشاعره على عقله وإتزانه، غالبًا ما تكون تصرّفاته غير مَحسُوبة النتائج. وبالتالي، نعم للتأسيس لطبقة سياسيّة جديدة كليًا، قادرة على بناء دولة عادلة ومُتحضّرة تؤمّن عيشًا كريمًا وحياة آمنة ومُستقرّة لمواطنيها، وكما قال البطريرك الماروني الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي في عظة الأحد، "يجب الوُصول إلى إستقالة الحكومة برمّتها... وإجراء إنتخابات نيابيّة مُبكرة"، لكن لا لتقديم خدمات مجّانية للسُلطة تجعلها أكثر قُدرة على التمادي في البقاء في الحُكم، وبالتالي على فرض سياسة أحاديّة التوجّه.
(1) شملت الإستقالات عددًا من الوزراء والنواب، وحصلت إستقالة واحدة في السلك الدبلوماسي.
(2) يُوجد خلاف بين رجال القانون والدُستور في لبنان بشأن العدد المَطلوب من الإستقالات لإجراء إنتخابات عامة جديدة.